الشارع مصدر السلطات - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 4:11 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الشارع مصدر السلطات

نشر فى : الأربعاء 20 يوليه 2011 - 9:25 ص | آخر تحديث : الأربعاء 20 يوليه 2011 - 9:25 ص

 قديما كان يقال إن الأمة مصدر السلطات. وعندما رحّلنا لفظ الأمة إلى مجمل الشعوب العربية، تحولت المقولة إلى «الشعب مصدر السلطات»، وأعيد تسمية مجلس الأمة بـ«مجلس الشعب». ويبدو أن نظام مبارك غير المبارك اختزل الشعب فى مجلس من تأليفه وتلحينه، قال رئيسه إنه سيد قراره، فأصبح هو مصدر السلطات.. هكذا أفضل وأدعى للاستقرار.. فى كرسى الحكم. ورغم تسمية أعضائه بالنواب فإنه لم يكن مجلس نواب كما كان يطلق عليه عندما كان ينوب عن الشعب فى مهام التشريع. وهكذا استبعد الشعب من الصورة، لتتفرغ السلطة لنهب ممنهج لثرواته بل وإزهاق أرواح أبنائه فقرا وكمدا. واكتمل تزييف الصورة بأسماء الأضداد: فالرئيس مبارك، والوريث جمال، ورئيس مجلس الشعب سرور، ورئيس مجلس الشورى شريف، ورئيس مجلس الوزراء نظيف، ومهندس التزوير عز، والمروج للطغيان هلال، لتأتى الأفعال مضادة للأسماء، ويغدو النظام مضادا للشعب.

 
وعندما تحرك الثوار الشباب مطالبين بإسقاط النظام، تنبه الشعب فجأة إلى أنه كان نسيا منسيا، وأنه كان يُعتبر أغلبية صامتة، غير فاعلة، فاستيقظت فى النفوس شعلة الأمل بتحقيق الذات واسترداد الحقوق الإنسانية. وتعامل معهم النظام الفاسد فى البداية كما تعامل مع حركات واعتصامات سابقة بمبدأ «خليهم يتسلوا»، بل وأجّر لها رصيف مجلس الشعب لتفرشه بمعرفتها. وحين تحول الاحتجاج إلى غضبة تطالب بإسقاط النظام طاش صوابه فلم يكتف بتوظيف أدوات القمع والإرهاب، فسخر آليات البلطجة التى كانت تكفل له البقاء، لإراقة دماء زكية وإخراس ألسنة عفيفة. فلم يكن أمام الشرفاء، وهم الأغلبية الساحقة من الشعب، التى لم يلوثها الانتماء إلى ذلك النظام الفاسد، سوى النزول إلى الشارع ليزيح القتلة عن أبنائه الشرفاء، ويفتدى بهم فى التمسك بالسلمية، ليثبت أن رجاحة العقل أقوى من كل سلاح فتّاك وأعلى من كل صوت أفّاق.

 
وهكذا شهد الشارع جموعا نبذت كل فروق بينها لتعبر عن إرادة موحدة لبناء نظام يعيد السلطات إلى صاحبها الأصيل، فاكتملت بذلك مقومات الثورة. غير أن الأمور تركت تسير على عواهنها بحكم تداعى الأحداث دون ترتيب مسبق، وهو ما جعل الثورة نموذجا فريدا: فقد بدأت بحركة احتجاجية أسرعت حماقة النظام بتحولها إلى ثورة، ولكن بدون قيادة. فغاب بالتالى صدور البيان رقم (1) محددا مبادئها الحاكمة والمهام الأساسية التى تعزم على إجرائها (كما كان الحال فى ثورة يوليو) اكتفاء بشعارات لا جدال فى وجاهتها. ولم يتفق الثوار الشباب على شخصية معروفة ومقبولة تعبر عن رؤاهم أمام الشعب والعالم الخارجى، ويصطفّون وراءها صفا واحدا، كما فعل ثوار يوليو حين أتوا باللواء أركان الحرب محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة ليقود حركتهم. وكان معروفا بوطنيته ونزاهته وقادرا على اكتساب ثقة الشعب.

 
وجاءت التحركات فى جهاز السلطة التنفيذية دون مستوى طموح الثوار، بل وربما أغرى النجاح فى بعض الأمور إلى طمع فى مزيد من المكاسب. وفى الوقت نفسه أدى يسر وسرعة انهيار النظام المهترئ إلى اعتقاد أن مطالبهم الفئوية المحدودة (وإن كانت متماثلة فى معظم جوانبها) أيسر، وبالتالى أجدر بالتحقيق لو وضعت فى صدر القائمة. وهكذا بدأ مسلسل تعدد المطالب ورفع سقوفها بسرعة تفوق قدرات التنفيذ، وما زال مستمرا. ساهم فى ذلك أن فئة الثوار ظلت بدون معالم محددة. ففى البداية اتفقت مجموعات مختلفة («كلنا خالد سعيد»، و«6 أبريل» التى تحولت إلى مجموعتين، وغيرهما) على التحرك فى 25 يناير، وانضم إليهم شباب منهم من ينتمون للجماعات الإسلامية. وعندما فرضت الثورة نفسها على الساحة توسع التشكيل الذى يطلق عليه «الثوار الشباب» وهلل لهم من أوهموهم ــ عن حسن نية أو سوء قصد ــ أن الثورة ثورتهم فلهم أن يحتكروا الحديث باسمها، وأن يتجنبوا من أسموهم بالراغبين فى القفز على الثورة لجنى مكاسبها، أو إجهاضها من فلول النظام السابق. ونزل الجميع إلى الشارع دون أن يحمل أى منهم وثيقة إثبات الانتماء الأصيل للثورة، فأعاد الشارع رسم خريطة المجتمع المصرى على نحو لا أعرف له تفسيرا لدى علم الاجتماع الذى لا أدعى الإلمام الكافى به.

ساعد على ذلك أن الاستبداد الذى مارسه النظام الساقط مزق تلك الخريطة، فلم يعد هناك أساس سليم لأى تشكيلات سياسية فعالة تدافع عن مصالح قطاعات محددة المعالم، فى ظل رؤية مشتركة للصالح العام. ولم يتسع الوقت لكى تنبثق تلك التشكيلات من خلال نضال وكفاح على مستوى القاعدة يحدد مسارا تلتزم به التكوينات المشتغلة بالسياسة، وتلك التى تعنى بشئون المجتمع المدنى. واستجدت ظواهر يمكن أن تصيب التحول الديمقراطى فى مقتل. أولها ازدهار حب الرئاسة (أو ما يسمى المريَسة) الذى كان أداة النظام السابق فى تحويل الجموع إلى أتباع. فهناك من توسم فى نفسه القدرة على رئاسة الدولة، متشجعا من تمكن الرئيس السابق من البقاء ثلاثة عقود ونصف نائبا ثم رئيسا، رغم قدراته الشديدة التدنى فى خارج نطاق تخصصه. فتفتق ذهنه عن برنامج مثل ذلك الذى ألقاه (ولا أقول فكر فيه) ذلك الرئيس فى آخر ولاياته، فتمسّح فيه الجميع، واعتبروه معيار قياس الإنجاز. لم يدرك أى من هؤلاء أن البرنامج يناسب أوضاعا مستقرة، وأن المطلوب لبناء نظام جديد هو طرح رؤية جديدة للدولة تصلح أساسا لنظام قادم، توضع فيه برامج لتحقيقها.

 
وفى غيبة تفاعل مجتمعى سليم يسمح بتشكيل حركات سياسية تصعِِّّد إلى قيادتها من يأتمنهم أصحابها على تسييرها، حدثت عملية عكسية من أعلى إلى القاعدة. فانبرى عدد من المفكرين أو الأدعياء إلى طرح أفكارهم كأساس لكيانات حزبية ليترأسوها واستجداء أتباع يستوفى عددهم شروط إعلان قيام حزب. وأخطر هؤلاء من اختزلوا عملية التفكير إلى رفع راية الإسلام لتضمن لهم أن يصبحوا ولاة أمر فيطاعوا بأمر إلهى. والمشكلة أنه مهما طالت الفترة الانتقالية، فلن تكفى لقيام منظومة سياسية ثابتة الأركان. ويصبح من الضرورى الإسراع ببناء المؤسسات الأساسية بمفهوم ديمقراطى، يتيح الفرز بين الغث والثمين حتى تنتهى إلى نظام سياسى متوطد الأركان. ويستدعى هذا الاتفاق على القواعد الحاكمة للدستور، حتى لا يأتى ثمرة وضع غير مكتمل للتفاعل بين قطاعات الشعب يستنسخ القواعد التى مكنت النظام السابق من التلاعب بمفاهيم الديمقراطية.

على أن أسوأ ما يصيب الثورة ذلك المسلك الذى بدأت تترسخ جذوره فى شكل القيادة من المقعد الخلفى وهو الشارع الذى أصبح يضم فئات عديدة. فهناك الثوار الذين ضحوا من أجل إنقاذ وطنهم ووضعه فى موضعه اللائق، والذين صمموا على ألا يهدأوا حتى تجاب جميع المطالب. وهناك المتظاهرون، منهم ثوار ومنهم من يتظاهرون بالتظاهر لغرض فى نفس يعقوب. ومنهم المعتصمون بغير حبل الله ولكن فيما يشبه سلوك الطفل الذى ينعت بالنكدى. وهناك المضربون عن الطعام، فى أقسى صور فرض الرأى وإزهاق نفس بغير نفس. وهناك الفضائيات التى تنتقى أشخاصا يتحدثون من الاستوديو أو من الشارع. تستمع إلى بعضهم فتجده يرفع عقيرته بلهجة العصبجية. ومنهم الفلول والبلطجية. وهناك قطاع الطرق والمخربون الذين يقصدون تأليب الشعب على ثورته. ومنهم المهددون بتخريب المصالح الاقتصادية للدولة. ثم يثار العذر الأقبح من الذنب بإغلاق المجمع بدعوى تأمين المعتصمين.

 
لو أن الثوار الحق يدركون كيف ينجون بثورتهم إلى بر الأمان لطالبوا بتحريم وتجريم النزول المتكرر إلى الشارع الذى يهيئ فرصا لأعداء الثورة لممارسة جرائمهم. ولاستبقوا للتحرير الصورة التى بهرت العالم، فلا يزيلوها بأفعال تقلل من شأن ثورتهم. وليخطوا أول خطوة لتحقيق الديمقراطية الغائبة، فيقيموا مؤسسات لإبداء الرأى ومناقشته ووضع برامج للتنفيذ، لتصبح الكلمة بالعقل والشفاه بديلا للصراخ والتهديد.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات