داخل حياة الآخرين - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

داخل حياة الآخرين

نشر فى : الأربعاء 20 يوليه 2016 - 10:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 20 يوليه 2016 - 10:00 م
أدخل بيوت ناس لا أعرفهم، أزورها فى غيابهم بموافقتهم فأضيع فى تفاصيل حياتهم كما تركوها فى الغرف التى يعيشون فيها معظم السنة. أتعرف عليهم من خلال أثاثهم، كتبهم، محتوى مطابخهم، ثيابهم التى ما زالت معلقة فى الخزانة. أدخل بيوتا لأصحابها طريقة حياة لا أعرفها، ألعب معهم لعبة «ضيفة وضيوف» التى كثيرا ما لعبتها مع صديقات الطفولة، فأتخيل أنهم دعونى إلى بيتهم أو أننى دعوتهم للتسامر معى فى بيتى. لكننى لا أعرف أصحاب البيوت وهم لم يزورونى فى منزلى. لم نشرب القهوة معا ولا أعرف عدد أولادهم.

أتخيل أن صاحبة هذا البيت مضيافة تحب أن تدعو الناس إلى وجبات تعدها بنفسها، فمطبخها يشى بأسرار كثيرة، مثل ولعها بالبهارات المختلفة، فى المطبخ حائط كامل بأرفف عليها مرطبانات صغيرة، فيها كل ما يمكن لأى شخص يحب سوق البهارات أن يشتريه. كما أنها تملك من أوانى المطبخ أنواعا لم أرَ منها من قبل، رغم حبى الشديد للمطبخ أصلا ومتابعتى لأنواع الصوانى الجديدة التى تحفظ حرارة الطعام دون أن تحرق يد من يلمسها مثلا.

أما صاحب بيت آخر زرته، فيبدو عليه أنه يحب الوحدة. فى بيته كأس ماء لا غير، وآلة صنع القهوة التى تحضر فنجانا واحدا، فلا فوهة لصنع فنجانين. فى غرفة المعيشة كنبة واحدة بمقعدين دون أى كراسى أخرى فى مساحة المعيشة. تلال من الكتب تغطى الطاولة الخشبية الصغيرة أمام الكنبة. أنظر إلى الكتب فأتخيل الرجل الخمسينى فى قاعة المحاضرات، فهو كما قال لى فى رسائله الإلكترونية أستاذ فى مادة التاريخ المعاصر، ويركز على منطقتى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. أفتح كتابا عن تاريخ نسج السجاد فأرى جمال الألوان، وأقرأ شرحا عن تأثير النقشات فى التحولات السياسية فى أفغانستان وأوزبكستان. لم أكن قد فكرت من قبل فى تاريخ هذه المنطقة المتفجرة من منظور صناعة السجاد، فأنا غالبا ما أتابع تطور الإعلام ومواقف النخب السياسية وصفقات الأسلحة والغاز والنفط حتى أفهم ما يحدث.

أما فى البيت ذى الطوابق الثلاثة الصغيرة الذى عشت فيه لمدة شهر منذ سنتين، فقد اكتشفت أن غرف تغيير الملابس التى نراها فى المجلات هى فعلا موجودة فى بعض البيوت، فمن غرفة النوم الصغيرة فى ذلك البيت، هناك باب يأخذنا إلى غرفة أكبر، تحتل فيها الأرفف والدروج وقضبان تعليق الملابس حيطان المكان الأربعة. لم أرَ فى حياتى كمية فساتين وأحذية نسائية خاصة كما رأيت فى تلك الغرفة، شعرت وكأننى طفلة تقف فى بيت اللعب الذى كانت تراه فقط فى التلفزيون، نصف حائط يضم مجوهرات وإكسسوارات، أقراطا فضية وملونة، أساور وخواتم، يقابلها من الطرف الآخر أرفف عليها شنط نسائية مختلفة، بعضها كبير يتسع لجهاز الكمبيوتر الشخصى وبعضها صغير عليه أزرار تلمع تأخذها صاحبتها إلى السهرة. صاحبة غرفة الملابس هذه أتخيلها فى عقدها الرابع، يبدو من ثيابها أنها نحيلة وتحب القصات الأنيقة والألوان الخريفية.

***

درجت فى السنوات الأخيرة عادة أن يقوم المسافرون باستئجار بيوت مسكونة أثناء زيارتهم لمدن لا يعيشون فيها، خصوصا حين تتجاوز الزيارة عدد أيام معدودة وتكون الإقامة لمدة أطول. البيوت مسكونة لكن أصحابها يضعونها قيد الإيجار فى فترات سفرهم هم الآخرين، فيجد أحدنا نفسه فى بيت ما زال فيه بعض الطعام الجاف كالأرز والمعكرونة والعدس فى المطبخ، وباقى صابون اليدين فى الحمام. أعترف أننى، ومع كل زيارة كهذه، أفتح خزانة الحمام حتى ولو أننى لا أحتاج قطنا أو صابونة جديدة. أتأمل محتوى الدروج، أنظر فى الزوايا لأرى إن كان أصحاب البيت من المهووسين بالنظافة لدرجة أن تكون جميعها قد مسح من بين حوافها التراب. أعترف أيضا أننى، مع كل اتفاق من هذا النوع، أتساءل إن كنت أنا نفسى أستطيع أن أخلى بيتى ليعيش فيه شخص لا أعرفه، فيتعرف على من خلال كتبى ولوحات علقتها على الجدران. هل سيعرف من يدخل بيتى أننى جلست على الكرسى الأزرق أفكر فى قريبتى التى لم أرها منذ سنوات، ثم ظهرت لى فجأة على الهاتف لتزف لى خبر زواج ابنتها التى أذكرها طفلة؟ هل سيفهم الزائر مدى تعلقى بالسجادة الأفغانية النفيسة التى حملتها أمى من منزلنا فى دمشق لتعطينى إياها كهدية يوم زفافى لمعرفتها بمدى محبتى لها؟ من سيشرح لمن يقف فى مطبخى أننى حين أخلط مقادير عجينة الفطائر فإننى أشم رائحة الفرن فى السوق لحظة خروج مثلثات السبانخ منه؟

***

أنا أستأجر بيوت الناس المسكونة حين يغيبون فى إجازة عنها، أدخل حياتهم وأحاول التعرف عليهم، أشعر أنهم أصدقائى حين أرى كتبا عن الشرق الأوسط ومطابخ جاهزة لترتيب حفلة عشاء كبيرة، فالأوانى متوفرة ومجموعة الأطباق والشوك والسكاكين تكفى لأكثر من عشرة أشخاص.

أخرج من بيوت الناس كما دخلتها، دون أن أتعرف عليهم. لكننى أبنى قصصهم فى ذهنى خلال أيامى بين أشيائهم، أضع المفتاح على الطاولة عند المدخل وأخرج وأنا أتساءل أى لوحة هى المفضلة لدى صاحبة البيت؟ أتخيل أنها اللوحة التى علقتها مقابل الكنبة الرئيسية، فمن يجلس هنا لا يمكن أن يتفادى النظر إليها. ومع اهتراء المخدة فى هذا الطرف من الكنبة، أظن أنه حين تجلس صاحبة البيت هنا وتتأمل اللوحة، فهى تفكر فى اجتماعها القادم فى العمل أو فى لقاء حبيبها على العشاء فى اليوم التالى.
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات