نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب عبداللطيف الزبيدى جاء فيه؛ هذه نزهة أخرى فى فلسفة موسيقى العربية، دعوة متكررة إلى اللغويّين، أن يعكفوا على إنجاز هذه المهمة الرائعة، فموسيقى لغتنا ورياضياتها لا يوجد لها مثيل فى اللغات الأخرى، لا يستطيع فرد النهوض بهذه الأمانة بمفرده.
يشك القلم فى أن العربية أساسها الجذر الثلاثى. الأرجح أنها قامت على الثنائى كجذع يحمل المعنى الأصلى، وفروعه الثلاثية تعبر عن التفاصيل. علماء اللغة القدامى لم يغوصوا فى هذه الأعماق التى تؤسس لفلسفة موسيقية لغوية تغير النظرة كليا إلى بنيان العربية. معاذ الله أن يقصد القلم الإشارة إلى قول الشاعر: «مرّت بنا هيفاء مقدودةٌ.. تركية تنمى لتركىّ.. ترنو بطرْفٍ فاترٍ فاتنٍ.. أضعف من حجة نحوىّ».
الثلاثيات التى تنتهى بالميم والسين، يغلب عليها معنيان أساسيان: التوارى (الاختفاء أو الاختفاء والعودة إلى الظهور) والشدة (القوة، العنفوان). هل يُعقل أن تشترك تسعة جذور ثلاثية تنتهى بالميم والسين، فى معنى التوارى، بمحض مصادفة؟
أمس هو اليوم الذى توارى. جمس يعنى جمد، كأنما توارت سيولته وحركته. انظر الجيم والميم ماذا تفعلان. الجامس من النبات ما ذهبت رطوبته. دمس يعنى دفن ووارى، والتدميس إخفاء الشىء. هل عرفت الآن أصل معنى الفول المدمّس؟ همس، الهمس هو الخفى من الصوت، والأسد الهموس هو الخفيف الوطء لكيلا تشعر به الفريسة. طمس أى أخفى المعالم، محاها، وانطمس اختفى. رَمَس، فى الإمارات تحدث وتكلم: الرّمسة. فماذا يقول «لسان العرب»؟ «الرمس الصوت الخفىّ، ورَمَس الشىء يرمسه رمسا: طمس أثره. ورمسه رمسا فهو مرموس ورميس: دفنه وسوّى عليه الأرض». كمس ثلاثىّ مهمل، ولكن الأكمس هو الذى يكاد لا يبصر، كأنما توارى بصره. قمس يعنى انغط فى الماء ثم ارتفع، غاب ثم آب، رحل ثم قفل. هذا شبيه بثلاثى غمس، القاف قريبة من الغين، فالغمس إرساب الشىء فى الشىء، اختفى ثم طفا. نَمَس السمنُ، فسد وتغيّر. تصوّرُ حدوث كل ذلك مصادفة، سذاجة وهروب من التفكير الأكاديمى فى تفسير ظاهرة دور الثنائىّ فى تشكيل بنيان الثلاثى.
فى جردة الحساب هذه، نجد ثلاثة جذور ثلاثية تنتهى بالميم والسين، مشتركة فى معنى الشدة والعنفوان والقوة: حَمَس، الحماسة الشجاعة من الحمْس الشدة والاشتداد. شَمَس الفرس جمح ورفض أن يُركب، ورجل شموس شديد عنيد. هل ننسى قوة الشمس؟ ثلاثىّ عمس يلعب على الحبلين، يقال يوم عَمَاس أى مظلم، فضياؤه متوارٍ، ولكن العَمَس الشدة، وحرب عماس شديدة. أين نضع خمس؟ علينا أن نضرب أخماسا فى أسداس. هذه نتركها لخميس من أهل اللغة، أى جيش.
لزوم ما يلزم: النتيجة الاكتشافية: من توهم أن أسرار العربية انتهت، فقد جهل مناجمها.

الخليج ــ الإمارات