النظرة للإنسان والأسئلة الصحيحة - ريم عبد الحليم - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 7:11 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النظرة للإنسان والأسئلة الصحيحة

نشر فى : الأربعاء 20 أغسطس 2014 - 8:25 ص | آخر تحديث : الأربعاء 20 أغسطس 2014 - 8:25 ص

 

مع طرح الأسئلة الصحيحة، سوف تبدأ رحلة عبر علامات الاستفهام التى لا تنتهى، لتصبح هذه الرحلة هى متعتك الحقيقية من تناول القضايا الاقتصادية بالتحليل والتعليق.

أكثر حدث يجعل الاقتصادى يغير أفكاره ويتنازل عن مسلماته الرقمية بسرعة مذهلة هو بداية طرحه لتساؤلات تتعلق برؤيته للبشر بدلا عن الحسابات. إن الأرقام خلقت للاقتصاديين عالما مهما بالفعل ولكنه فى أحيان كثيرة جاء موازيا للعالم الحقيقى، اكتشاف الباحث الاقتصادى لهذا المدخل الإنسانى فى معالجة القضايا الاقتصادية التى طالما اعتبرها صماء قد يسقط الكثير من معانى حساباته وتوازناته. لقد آن الأوان لإعادة اكتشاف النماذج الاقتصادية المتبعة من خلال طرح تساؤلات مثل «لماذا غضب البشر؟» «لماذا افتقر البشر أو تعطلوا لو كانت نظرياتنا وأرقامنا كافية؟»، «لماذا يمرضون، لماذا يجوعون، بل ولماذا يصمتون أحيانا عن أوضاعٍ اقتصادية واجتماعية لا يمكن تحملها؟!»

كثيرون من الواثقين وغير الواثقين فى قدرة اقتصادات السوق والليبرالية الجديدة على خلق نمو يوفر حياة رغدة للجميع بشرط التنازل عن العدالة الاجتماعية، قد يحسرون أسباب فشل هذه المداخل فى الفساد وغياب الحوكمة. شخصيا ظلت هذه القراءة لأسباب الفشل مصاحبة لى لفترة من الزمن، قراءة مريحة لا تُحمل النموذج نفسه بعيوب، بقدر ما ترجع الفشل لأسباب خارجة عنه، وكأنها أسباب تتعلق بالأساس بعدم تطبيقه بصورة سليمة. سؤال وجب طرحه لتحديد موقع الفساد وغياب الحوكمة فى تحليل أسباب فشل هذه المداخل، وهو: هل من الممكن إقامة النمو على تغييب العدالة دون وجود مساحة للفساد؟ الإجابة المنطقية على هذا التساؤل هى لا، فكيف تخلق أدوارا تقوم على العمل لصالح المنتِج، والتفرقة بين صاحب رأس المال والعامل، لتمنح الأول حصريا دور الحق فى تحقيق التراكم الرأسمالى أى الاستئثار بالفائض من تشغيل النموذج والثانى دور المدخل الرخيص لتيسير تحقيق هذا الفائض دون تشكيل مجتمع يقوم على شبكة مصالح ضيقة؟

•••

إن مكافحة الفساد لا غنى عنها لتكسير شبكات المصالح المتكلسة، ومن ثم إتاحة جزء أكبر من ناتج عمل النموذج الاقتصادى للفئات خارجها، فمكافحة الفساد كهدف نهائى لن تؤدى إلى إنجاح هذا النموذج، فسرعان ما تتكون شبكات مصالح جديدة تنبع بالأساس من قيام النموذج الاقتصادى على حماية مساحات التفاوت ولو مرحليا، وفى أحيان كثيرة يتم تصدير الفساد للمجتمعات الأضعف، أو خلق هذه المجتمعات الأضعف والاعتماد عليها لتمويل استمرار النمو بصورته الضيقة، ومن ثم تبقى طبيعة النموذج نفسه محددة للاستحقاقات التى يتم توزيعها من حيث الطبيعة والتوقيت والمكان، فهى لا تمنح كل فرد بالقدر الكافى لتتحقق المساواة، بل بالقدر الكافى لبقاء أنظمتها من خلال تحسين شروط تكيف الأفقر والأكثر حرمانا معها ليس أكثر. ومن ثم فمكافحة الفساد تمثل هدفا شديدا المحورية ولكن فى إطار النظرة الأشمل صوب تحقيق العدالة والمساواة.

فالمشكلة تكمن فى النموذج ذاته والذى يتعدى الخلل فيه مرحلة اعتبار «البشر» عنصرا غير نادر، ومن ثم لا يجوز تسعيره بسعر مرتفع، ليمتد إلى عدم العمل على رفع جودة هذا العنصر من الأساس، فلا ضرر من ابقائه دون تنمية حقيقية، لكى يبقى متوافر بسعر أرخص. نموذج يتكامل مع نفسه بشكل تلقائى ربما دون سوء نية، فقط يحدث، ويصبح أمرا طبيعيا.

ويستمر النموذج فى العمل حتى تضربه الأزمة الاقتصادية والتى يجب أن يتم تحميلها على الفئات الأفقر فيضيع تأثير أى تساقط «إن كان قد حدث»، فالدور المرسوم وفق هذا النموذج لابد وأن يمنح حق السبق فى الخروج من الأزمة للمنتج لكى يحفز النمو ويبدأ فى التشغيل، وفى حالة اعلان الدولة تفاقم عجزها المالى قد تتبع سياسات انكماشية تحمل الأزمة على الفقير الذى يحرم من خدماتها، وإن رفعت سعر الفائدة على الأذون والسندات يستفيد أصحاب الثروات والودائع من رفع سعر الفائدة، الذى يموله الفقير من مخصصات التعليم والصحة والخدمات والحماية الاجتماعية.

•••

ربما لم يكن عالم السوق ليهتم بقضايا العدالة لو لم تثبت الدراسات الحديثة الصادرة عن مؤسسات التمويل الدولية ذاتها أن فترات انتعاش النمو تقصر كلما ارتفعت درجة التفاوت فى الدولة، بل إن تركيز الدخل فى يد نسبة أقل من البشر يجعل ضربات الأزمات أعتى.

لقد أيقظت الأزمات المالية العالم على التبعات المريرة للتنافس غير الحميد بين بناء الإنسان وإحداث النمو المطلوب لإيجاد فرصة عمل له، تناقض يطالب الإنسان بالتنازل عن حقوقه الأساسية لكى يتم توفير الموارد المطلوبة لتمويل حصوله على هذه الحقوق! وفق النموذج المتبع العدالة تُعوق التراكم الرأسمالى، فيوضع الإنسان فى مرتبة أدنى من الآلات والمعدات، بعد فترة لابد وأن يتوقف المكن عن العمل، لأنه لا يجد من يشغله، ولا يجد من ينتفع من تشغيله. ليس هذا فحسب، بل استدعت بعض الأزمات المالية أهمية تدارس الجانب من الاقتصاد المرتبط بقضايا البشر وتعبيرهم عن أسباب معاناتهم ورؤيتهم للأزمة.

ظلت البرازيل وغيرها من الدول، نماذج ناجحة للكثيرين، ارتفاع فى النمو حتى بلغ 7.5% فى عام 2010، وتراجع فى نسبة الأسر تحت خط الفقر، خاصة المدقع مع تراجع فى قياسات عدم العدالة، ولكن وقعت الأزمة كذلك وانهار النمو لما لا يزيد عن 1% فى عام 2012، ليس هذا فحسب بل خرج المتظاهرون غاضبين على «الحلم البرازيلى» الذى ظلمهم.

حقيقة الأمر، إن الانخفاض الحادث فى قياسات عدم العدالة فى توزيع الدخول بقى محدودا للغاية بالنظر لارتفاعها، فقد تراجع مقياس جينى مما يقارب 0.6 فى عام 1999 إلى 0.55 فى عام 2009، هذا التراجع فى التفاوت فى توزيع الدخول ــ والذى يرجع بالأساس إلى تحسين سياسات العمل والحد الأدنى للأجور ــ على الرغم من محدوديته الشديدة أسهم من ضمن إجراءات لتحسين إدارة الدولة فى إحداث انخفاض فى مؤشرات الفقر والفقر المدقع، كما أطال فترة الانتعاش الاقتصادى، كما تشير دراسات عدة.

ولكن الدراسات والأرقام ليست كل الحقيقة، إن المقالات التى كتبت لاستقراء اسباب غضب الشعب البرازيلى فى الفترة الأخيرة أظهرت حقائق لن تذكرها الدراسات والتحليلات الاقتصادية الجامدة، فقد أكدت أن جانبا كبيرا من هذا الغضب الواضح يرجع لاستمرار التفاوت الضخم فى الدخول، ولأبعاد أخرى من عدم العدالة تتمثل فى تركز الثروات وتركز صناعة النمو جغرافيا وطبقيا والذى تبعه تفاوت فى حق المشاركة فى صناعة القرار فى أحيان كثيرة، بشكل جعل التحسن ليس مستداما، ولا يعكس حجمه الواقع كما تعكسه الأرقام.

فبرغم النجاح النسبى للتجربة البرازيلية بالأخص فى اقتناص بعض حقوق العمال والأكثر فقرا، فقد ظل النموذج الاقتصادى يعانى من اختلالات فى استهداف العدالة بشكل كامل، النمو المدفوع بالاستثمار الخاص والتصدير وحدهما لم يعودا مستدامين، وتراجع الطلب بعد انتعاش قصير الأجل ليخلف وراءه إحباط المستهلك الذى فرح بدخله وأنفق ببطاقته الائتمانية أكثر منه. تصاعدت أصوات تشكو من تراجع الخدمات التعليمية والصحية وارتفاع تعريفة المواصلات العامة، فى جملٍ كثيرة مررت عليها كانوا يشكون من آثار التفاوت وما أنتجه من فساد ومن آثار الفساد وما أنتجه من تفاوت.

•••

إذا كنت تحيا فى وطن لم يشهد انخفاضا فى قياسات نسبة الأسر تحت خط الفقر من الأساس، ولم يمنح العمال أية قنوات تفاوض تمكنهم من الحصول على حقوقهم، ويعانى تراجعا كبيرا فى الخدمة الصحية والتعليمية والنقل العام، ولا يوجد به أية سياسات للحماية الاجتماعية، وربما ينفق البعض فى أحسن الأحوال ببطاقة الائتمان للحصول على الخدمات الأساسية لأن دخله غير كافٍ، بل ويسخر بعض ممثلى الإعلام الرأسمالى من «حقوق الإنسان».

فى الوقت نفسه تعمل المؤسسات الدولية من خلال الاتجار بقضايا الفقراء، فلا يعنيها تقديم حلول جذرية بقدر ما يعنيها تمرير قروض تسعى لمساعدة الفقراء على التكيف مع حرمانهم من حقوقهم، ليستمر نموذج النمو والإفقار كما هو.

فقبل أن تقلق كثيرا من تفاقم عجز الموازنة خوفا من توقف الدولة عن توفير خدماتها لك، عليك أن تعود نقطتين للخلف وتتساءل: «ماذا وفرت الدولة للفقير من الأساس فى وقت توافر الأموال وانضباط المؤشرات؟!»، و«هل يبدو من المنطقى أن يدفعنى الخوف من تفاقم عجز الموازنة بحيث تعجز الدولة عن توفير «التعليم والعلاج» على القبول بسياسات تقوم على حرمانى من الأساس من هذه الحقوق بحجة تمويل هذا العجز؟». حينها سوف تدرك دور الإنفاق العام، والمسارات البديلة الحقيقية المتاحة لضبطه. وحينها سوف ترى بوضوح شكل المستقبل إذا سار الدرب واستمر على سياسات الماضى، وسوف تدرك كنه المشكلة الاقتصادية وتبدأ الطريق نحو إيجاد الحلول.

ريم عبد الحليم أستاذة الاقتصاد بجامعة القاهرة باحثة متخصصة في شؤون الفقر
التعليقات