إحياء الحرب الباردة - ماجدة شاهين - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 5:39 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إحياء الحرب الباردة

نشر فى : الخميس 20 أكتوبر 2016 - 9:30 م | آخر تحديث : الخميس 20 أكتوبر 2016 - 9:30 م
تباعا لمقال الأستاذ جميل مطر المعنون «ما لم يفعله أوباما» أتساءل: هل يحق لى الدخول فى جدل معه على اعتبار أن ما لم يفعله هو أقل سوءا بكثير مما فعله. وتبسيطا للأمور فإن أوباما أعاد إحياء الحرب الباردة فى منطقتنا بكل عنفوانها، وهى حرب لا نعرف أبعادها وتداعياتها على شعوبنا وأولادنا بعد. وقد يذهب الكثيرون إلى الجزم أن بوتين هو الذى بدأ هذه الحرب من جديد متباهيا باستعادة روسيا لقوتها فى المنطقة ومعززا لها. وإننا لا نقلل من شأن سياسة بوتين بصب مزيد من الزيت على النار إشعالا للمنطقة، فتخاذل إدارة أوباما والتخبط فى سياساتها كان لها نصيبها من استفحال مشاكل المنطقة بالشكل الذى نعيشه اليوم. فسياسات أوباما المتأرجحة، وتهديدها تارة بالانسحاب من المنطقة، على اعتبار أنه لم يعد لها مصلحة مباشرة فى الشرق الأوسط، وأن مستقبلها كقوة عظمى ومهيمنة، يكمن فى جنوب شرق آسيا من أجل التصدى للتغلغل الصينى، وتارة أخرى، تُعيد الولايات المتحدة حساباتها وتُراجع موقفها مائة وثمانين درجة، خشية من بسط روسيا نفوذها على المنطقة.

***

ويوالى بوتين انتقاداته المتتالية بخصوص فشل الولايات المتحدة كقوة منفردة فى قيادة العالم، وأن العالم كان أكثر أمنا وأمانا بسيادة القوتين العظميين، مؤكدا إلى حاجة العالم الملحة اليوم إلى قوة موازنة لكبح جماح تفرد الولايات المتحدة بالسيطرة. وأكد بوتين أن استئثار الولايات المتحدة بالقوة فى العالم جعلها تؤمن بقوتها أكثر من إيمانها بقواعد القانون الدولى التى كانت تعرقل ــ فى نظرها ــ استراتيجيتها وسياساتها الانفرادية. وفى المقابل، وردا على بوتين وما يزعمه من انتهاج الولايات المتحدة سياسات لتحقيق مصالحها الضيقة وتهديد البناء الدولى الشامخ للأمم المتحدة ومؤسساتها بالانهيار، حاول الرئيس أوباما جاهدا فى كلمته هذا العام أمام الجمعية العامة ــ وهى التى كانت بمثابة كلمة وداع منه للمجتمع الدولى بعد فترتين أمضاهما فى الرئاسة ــ حاول إعطاء كشف حساب عن إنجازات إدارته كقوة عظمى منفردة، مرددا أن الإنجازات التى قامت بها الولايات المتحدة تؤخذ كأمر مسلم بها من قِبَل المجتمع الدولى، ولكنها فى الواقع نتاج صنع الولايات المتحدة وسياساتها المتعقلة والمتزنة على الصعيد العالمى وبعيدة عن المصالح التقليدية الضيقة لدولة عظمى. وساق تعامله الإيجابى مع المؤسسات الدولية والالتزام بقواعد القانون الدولى، متباهيا بسياسته التعددية، هذا الصرح الذى يتركه كإرث خلفه، والذى قام بتأسيس عقيدته عليه طوال فترة رئاسته. مشيدا باعتزازه بما قام به من عمل جماعى وحشد الحلفاء والشركاء فى العالم على أساس التفاوض والإقناع والتعاون مع دول المجتمع الدولى صغيرها قبل كبيرها، على نقيض سلفه جورج دبليو بوش.

غير أن الرئيس أوباما يسمح لنفسه بالمزايدة فى حديثه أمام المجتمع الدولى مع إغفال أن سياسته متعددة الأطراف تميل أكثر إلى كونها سياسة «حسب الطلب» وفقا لشروط ومتطلبات الإدارة الأمريكية وحدها دون مبالاة لوقعها على العالم ودوله. ولم يحل ذلك من قيام أوباما بسرد إنجازات الولايات المتحدة المزعومة كقوة عظمى أثناء رئاسته، مشيرا مثلا إلى نجاحه فى إعادة الاقتصاد العالمى إلى الاستقرار والنمو فى أعقاب الأزمة المالية لعامى 2007/2008، وحل القضية النووية الإيرانية من خلال الدبلوماسية، وإقامة علاقات دبلوماسية مع كوبا. حتى أنه ذهب إلى اعتبار التغييرات الطفيفة فى نظام التصويت فى صندوق النقد والبنك الدوليين نجاحا، وأنهما أصبحا بموجب تلك التغييرات أكثر تمثيلا للدول النامية الصاعدة وأكثر عدالة فى نظام الحوكمة العالمية. غير أننا نعلم أن هذه التغييرات لم تمس من قريب أو بعيد القوة التصويتية الأمريكية، التى ما زالت تستأثر وحدها بأكثر من 17%، وهو ما يعادل حق النقض المنفرد فى هاتين المؤسستين الحيويتين.

وفى سرد انجازاته المزعومة لم يتطرق الرئيس الأمريكى من قريب أو بعيد إلى الشرق الأوسط، ويبدو أنه آثر أن يترك المجال مفتوحا تماما للإدارة القادمة، سواء أرادت التصعيد أو التراجع أو الاستمرار فى سياسات التخبط، حتى إنه امتنع إلى التلميح بأفضلياته فى هذا الشأن. ومرة أخرى ما فعله أوباما أسوأ بكثير مما لم يفعله، ساعيا إلى تغليف جميع مشاكل الشرق الأوسط فيما أسماه «أزمة الهوية»، وأعاب على سكان المنطقة ضيق أفقهم وتعنتهم على عكس ما نشاهده فى المجتمعات الليبرالية المتقدمة. وأرجع ذلك إلى الأنظمة الاستبدادية وقيادات الدول التى قامت بالتصدى لأى معارضة سياسية ومحاربة الأديان الأخرى. وبذلك يكون أوباما بجرة قلم قد غسل يديه ويدى إدارته بالكامل من الاضطرابات فى الشرق الأوسط. واعترف أوباما فى كلمته بصعوبة إيجاد حلول لهذه التناقضات الضاربة فى جذور تلك المجتمعات اللهم إلا من خلال التكامل والتعايش بين مجتمعاتها وقبول «الآخر».

***

واكتفى أوباما بهذا القدر من الإطار النظرى لحل المشكلات المأسوية فى منطقتنا والحروب الأهلية المندلعة وبروز الحرب الباردة من جديد بين القوى الدولية والقوى الإقليمية، بحيث أصبحت المنطقة ساحة لبطش هذه القوى على حساب الشعوب والمدنيين من النساء والأطفال العزل. ولم يتطرق أوباما بكلمة واحدة إلى مشروع إعادة ترسيم سايكس بيكو وإحلال الدول، التى تقوم على أساس عرقى ودينى محل الدول القومية التى تعايشت لأكثر من مائة سنة.

وفى إطار ما فعله أوباما بالنسبة للصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وليته ما فعل، فإنه بغض النظر عن توتر العلاقات بين أوباما ونتنياهو، منحت إدارة أوباما إسرائيل كما من المساعدات المالية التى لا مثيل لها فى التاريخ ودون ربطها بأية شروط. فإن خطة مارشال نفسها لا تضاهى صفقة أوباما ــ نتنياهو فى حجمها، والتى تبلغ 38 مليار دولار على مدى عشر سنوات. واكتفى الرئيس الأمريكى فى كلمة الوداع أمام المجتمع الدولى بجملة واحدة عن الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، مطالبا الفلسطينيين الاعتراف بشرعية إسرائيل، ووقف إسرائيل بناء المستوطنات فى الأراضى الفلسطينية المحتلة. وكأنه بذلك قدم ما كان يغفل المجتمع الدولى عنه.

فإذا كان فى وقت ما ترددت بعض التوقعات من أن تسعى إدارة أوباما إلى التقدم بإطار للتسوية فى الفترة المقبلة من خلال التعاون مع مجلس الأمن والدول الأعضاء، فإن هذه التوقعات تبخرت تماما فى ضوء كلمة الوداع التى ألقاها أوباما أمام الجمعية العامة وصفقة المساعدات المغرضة لإسرائيل. فضلا عن حساسية إدارة أوباما لأى خطوة تخطوها وقد لا تلقى ترحيبا من الإدارة القادمة وخاصة فى حالة فوز هيلارى كلينتون.

وإذا كانت الولايات المتحدة قد فكرت فى أى وقت مضى فى التراجع عن منطقة الشرق الأوسط، فإن هذه الفكرة أصبحت بعيدة التحقيق فى ضوء تصعيد التنافس الأمريكى الروسى الجديد فى المنطقة. فروسيا اليوم ليست حتما روسيا الضعيفة، التى عرفناها عندما كانت الساحة متروكة تماما للولايات المتحدة للتصرف وفقا لهواها، فضلا عن أن الحروب الأهلية فى المنطقة يمكن أن تمتد وتزعزع استقرار دولا أخرى ذات وزن فى المنطقة، وهو ما قد لا تتحمله الإدارة الأمريكية. فإن بديل استمرار التخبط فى السياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط أو قبولها بنصف الحلول لم يعد مطروحا بالنسبة للإدارة القادمة، سواء كان ترامب أو كلينتون الرئيس القادم للولايات المتحدة. فكلاهما يجب أن يكونا حاسمين فى اختياراتهما فى الشرق الأوسط، ومحاربتهما للإرهاب الدينى والإسلام السياسى سواء تجسد هذا فى القاعدة أو داعش أو جبهة النصرة أو أحرار الشام أو غيرها من الحركات الجهادية التى تتوالد وتتكاثر ذاتيا، وتصبح أكثر عنفا وأكثر شراسة. وطالما لا يوجد حل فى الأفق للصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى، فإن العالم ليس آمنا.

***

وأخيرا وليس آخرا، أن ما تعانيه منطقتنا من مآسٍ وحروب أهلية وعنف إرهابى ونزاع إقليمى مستمر، لا يتطلب قوة منفردة أو تنافس القوى من أجل التباهى والتفاخر الأجوف، أو التعددية حسب الطلب، ولكن يستلزم تضافر جهود صادقة من المجتمع الدولى والقوى الدولية والإقليمية والوطنية لإعادة الاستقرار إلى منطقة الشرق الأوسط.
ماجدة شاهين مساعد وزير الخارجية للعلاقات الاقتصادية الدولية (سابقاً)
التعليقات