في مديح الملل - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 4:39 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في مديح الملل

نشر فى : السبت 20 أكتوبر 2018 - 10:00 م | آخر تحديث : السبت 20 أكتوبر 2018 - 10:00 م

الكثير من العبث والملل. المدينة ساكنة لا حراك فيها، رغم ما تبدو عليه من حركة دائمة. ليس لدي أدنى رغبة في أن أركض في الشوارع للحاق بأي ركب، ولا القفز من القطار وهو سائر، بل تجتاحني حالة من الفراغ الممتلئ، كأن عنكبوتا نسج خيوطه طويلا في جنبات قلبي وعقلي. حان وقت فن الحملقة في السقف، فسحة من الوقت للتفكير وتدبر الأمور من حولي، والبعد ربما عما يحاك في الظلام على كل الأصعدة، الشخصي كما العام.
لم يدخل الملل قاموس اللغة إلا بعد أن شعر الفرد بالاكتفاء. ظهرت الكلمة في أوروبا إبان القرن الثاني عشر، بعد أن تطورت المدن ووصل الإنسان إلى درجة معينة من الرخاء والشعور بالأمان. وفي المقابل لا يوجد في لغات مثل الصينية ما يصف بالتحديد حالة الملل، ففي الحضارات الشرقية هناك التأمل الذي يغلب على طابع الحياة، والملل معناه عدم التوافق مع المحيط وهو عكس ما تصبو إليه هذه الحضارات.
***
مؤخرا ظهرت العديد من الكتابات في مديح الملل، ليس بمفهوم التثاؤب وثقل الجسم والتعب والأكل حتى الثمالة وعدم الرغبة في فعل أي شيء لدرجة الاكتئاب، لكن بالمعنى الذي تحدث عنه الكتاب والفلاسفة مثل راسيل وبروست ونيتشه وتشيكوف أي الملل كمصدر للإبداع والتغيير والتخيل. الضيف الثقيل أحيانا الذي يدفعك لأن تتوقف قليلا وتقول هنالك ما هو ليس على ما يرام. سئمت من العمل ويجب أن أرحل في إجازة أو أبحث عن وظيفة أخرى تستهويني أكثر. الملل الذي يبعث على قلب الحياة رأسا على عقب بهدف بلوغ السعادة، وهو ما يتفاداه الكثيرون بيننا. لا يحبون الملل لأنه يجبرهم على الاختلاء بالذات، في زمن صرنا جميعا ما أن نتواجد وحدنا نلتقط الهاتف أو اللوحات الإلكترونية لنتواصل مع الآخرين حتى بدون معنى أو هدف، فقط لسد الفراغ وأحيانا لعدم مواجهة الذات.
***
صخب وجعجعة بلا طحن. لذا يحلو الملل أثناء اللقاءات والاجتماعات والندوات، هربا من كلام مكرر. ننفصل عن الحديث الدائر بسبب الملل ونبدأ في التفكير بشيء آخر، نحاول أن نفرش العقل بأثاث مختلف، نسرح بالخيال بعيدا مثل الأطفال ونترك مجالا للتساؤلات. ندرب أنفسنا على أن نصاحب الملل ونروضه لصالحنا. نجلس في كرسي لنراقب عقارب الساعة والوقت يمر ونشعر به وهو يمر. نتخلص من هواتفنا المحمولة لمدة يوم كامل أو نتأمل ما حولنا في زحام المرور ويدفعنا تكرار العمل الروتيني نفسه لمزيد من الخيال. نضحك على الملل ونقاوم ضبابيته لنعرف ما الذي ينقصنا ويجعل الحياة لا طعم لها، بدلا من أن نغوص في رماله المتحركة.
دقائق الملل تمتد وتتلاحق ويترسخ انطباعا لدينا أنها بلا نهاية، لكنها اكتسبت أهمية في ظل إيقاع العصر اللاهث. لم تعد ترتبط بالرفاهية، فمن يستيقظ يوميا في السادسة صباحا لكي يجري وراء أكل عيشه وينتظر ساعات إلى جانب الرصيف في انتظار زبون محتمل ويكرر الجلوس على المقهى هو الآخر يتسرب إليه الملل، الفارق أن هناك من يعرف كيف يروضه ومن لا يعرف ويكتفي بالتثاؤب. يفتح فمه لأقصى درجة، تتسع رئتاه، وتتقلص عضلات الوجه والرقبة، وينعزل عن عالمه تبعا لمدة التثاؤب.

التعليقات