محمد وفيق.. وأستاذه - كمال رمزي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 5:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

محمد وفيق.. وأستاذه

نشر فى : السبت 21 مارس 2015 - 11:15 ص | آخر تحديث : السبت 21 مارس 2015 - 11:15 ص

هو أحد المتميزين فى مدرسة نبيل الألفى. تعلم منه فن الأداء العميق، الهادئ، المبتعد تماما عن صخب الانفعالات. يتحاشى المغالاة فى الصوت أو فى الحركة.. ما من مرة أشاهده فيها، فوق خشبة المسرح أو على الشاشتين، الكبيرة والصغيرة، إلا ويرتد الزمن فى ذاكرتى نصف قرن إلى الماضى.. أيامها، كانت هواية البعض منا، طلبة قسم النقد فى معهد الفنون المسرحية، حضور تدريبات نبيل الألفى، أستاذ التمثيل والإخراج، للدارسين فى قسم التمثيل.

نبيل الألفى، بتوجيهاته، وملاحظاته، وتعليقاته، بل وتعبيراته، استقرت فى ضمائرنا، لتغدو، من معاييرنا.. ويقينا، أثرت بقوة فى طابور ثمين، متمكن، ارتشفوا الكثير على يديه. منهم: نور الشريف، عبدالعزيز مخيون، نبيل الحلفاوى، محمود الحدينى، لطفى لبيب.. هذا على سبيل المثال لا الحصر. لكن، أحسب أن محمد وفيق، فى أسلوبه الأدائى، هو الأشد التزاما بتعاليم الأستاذ التى تلقاها أثناء التدريبات، استعدادا لاختبار نهاية العام.
كان المشهد الذى تجرى بروفاته، بين محمد وفيق ومجدى وهبة، من مسرحية «بيكيت، شرف الله» لجان آنوى، التى تحولت إلى فيلم سينمائى ذائع الصيت، ببطولة اثنين من أساطين التمثيل: بيتر أوتوا وريتشارد بيرتون، ومن إخراج بيتر جلينفيل ١٩٦٤.. جدير بالذكر أن هذه المسرحية من المختارات المتحددة، لفرق الجامعات، عندنا، وفى معظم البلاد العربية.

فى صالة التدريب، الأقرب إلى الحجرة، بدا الألفى، حتى وهو صامت، مهيمنا تماما على المكان، برغم وقوف الطلبة فوق «البرتكبلات». إنه مركز الثقل، نقطة استقطاب العيون والآذان. الكل، يحاول، بدقة، قراءة وقع الأداء على ملامح وجهه، المبتسم عادة، ابتسامة متغيرة المعانى: معترضة، مشفقة، ساخرة، راضية، غاضبة.. ثم يعم الصمت للاستماع إلى صوت الأستاذ، المنخفض عن تعمد، كأنه يرمى إلى تحويل الاستماع إلى نوع مرهف من الإصغاء.

الصراع فى «بيكيت، شرف الله» يندلع بين هنرى الثانى، ملك انجلترا، والقديس توماس بيكيت، كبير الأساقفة، الذى عينه الملك فى منصبه الرفيع، كى يصبح طوع بنانه، اعتمادا على صداقتهما. لكن توماس بيكيت دأب على معارضة قرارات الملك، مما دفع الأخير إلى تدبير جريمة اغتيال كبير الأساقفة، فى أروقة كاتدرائية كانتربرى.

لجأ الألفى إلى تبادل الدورين بين وفيق ومجدى، بهدف استيعاب وتفهم كل منهما لشخصية الآخر، وانتهى إلى إسناد دور «بيكيت» ـ الذى قام به ريتشارد بيرتون ـ لمحمد وفيق، على أن يجسد مجدى وهبة «الملك»، الذى برع فيه بيتر أوتول.

إرشادات نبيل الألفى تتعلق بضرورة الابتعاد عن الكليشيهات والقوالب التقليدية، فلا انفجارات انفعالية، أو مغالاة فى إبراز تقلبات العواطف، أو تشويح باليدين، مع مراعاة جمالية الحركة، حسب مقتضيات الموقف، وأن تتمشى هذه الجمالية مع بقية عناصر العرض المسرحى، من غلالات الستائر إلى ألوان الإضاءة، إلى الموسيقى والمؤثرات الصوتية.

ملاحظات الأستاذ تتوالى، مغلفة بالرقة، لا تخلو من دعابة، كأن يقول لتلميذيه: أنتما ليس بلطجيين تتشاجران فى زقاق، لكن، أحدكما ملك، لم يتعود عصيان أوامره.. والآخر، يرفض تماما الاقتراب من شرف الله، ولا تنسيا أنكما كنتما أصدقاء فى الأيام الخوالى، لذا، ثمة نوع من الإحساس الدفين بالمرارة، تجاه ما آلت إليه الأمور.. يتعمد الألفى، أحيانا، مخاطبة تلميذيه باسميهما فى المسرحية، يوجه حديثه لمحمد وفيق قائلا «يا بيكيت، أنت رجل أفكار، تعتمد على العقل».. ثم يلتفت إلى مجدى وهبة، المشاغب الظريف أصلا، ليقول، بابتسامة يمتزج فيها الجد بالدعابة «أما أنت فأهوج، تجرى وراء عواطفك».

دارت الأيام، وأصبح محمد وفيق واحدا من أبرز فنانينا، صحيح، لم يحظ ببطولة مطلقة، لكن غدا علامة بارزة فى مدرسة الأداء التمثيلى المصرى، يمنح الفيلم أو المسلسل مذاقا خاصا، شديد التميز.. تذكر، على سبيل المثال، دوره فى «الهروب» لعاطف الطيب ١٩٩١، كضابط شرطة عائد من أمريكا بعد زيادة خبرته فى فن إلهاء الناس. إنه هنا، بلا قلب، مجرد ماكينة أنيقة، تعتمد على عقل متآمر. بل يشعرنا أنه مدرسة تعتمد على عقل صارم، شرير.

ومن بين ما يزيد على العشرين مسلسلا، ينهض متلألئا فى «رأفت الهجان»، حين أدى دور ضابط المخابرات، المصرى الكفء، مصدر اطمئنان البطل، والمشاهدين، على السواء.. ومع الكاتب الكبير، محفوظ عبدالرحمن، والمخرج القدير، إبراهيم الصحن، يؤدى شخصية الخديو إسماعيل كما لم يقدمها أحد من قبله. هنا، يتحرك، يتكلم، ليس بفمه فحسب، بل بعينين تنطقان بالطموح إلى النهوض بالبلاد نحو الحضارة، اقتصاديا ومعماريا وفنيا.. إنه يختلف تماما عن «الخديو» كما ظهر من قبل، كرجل ساذج، ماجن.. هنا، مع محفوظ عبدالرحمن وإبراهيم الصحن، ينصف محمد وفيق اسما ظلم كثيرا.. وفى أدائه، حتى فى لحظات الانكسار، لا ينسى أبدا أنه يقف على أرض نفسية صلبة.. ما من مرة، أشاهد فيها محمد وفيق، إلا وأحس بشبح نبيل الألفى.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات