ساركوزى ليس وحده - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 5:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ساركوزى ليس وحده

نشر فى : الأربعاء 21 مارس 2018 - 9:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 21 مارس 2018 - 9:30 م

كأن المشهد كله، بأسراره وخلفياته وتداعياته، مقتطعا من قصص المافيا الإيطالية.
اتصالات جس نبض بين ممثلين للمرشح الرئاسى الفرنسى فى انتخابات (٢٠٠٧) «نيكولا ساركوزى» والعقيد الليبى «معمر القذافى» مهدت للقاء مباشر بين الرجلين المثيرين للجدل.
هكذا جرت صفقة سرية فى غرف مغلقة تعهد بمقتضاها «ساركوزى» دعم السياسة الليبية مقابل تمويل حملته الانتخابية بـ(٥٠) مليون يورو ــ حسب وثيقة موقعة من رئيس الاستخبارات الليبية على عهد «القذافى».
باعترافات أمام جهات التحقيق جرى نقل (٥) ملايين دولار من قيمة الصفقة فى ثلاث حقائب من طرابلس إلى باريس.
بطبيعة هذه الصفقات السرية دخل على الخط وسطاء تحوطهم ظلال وشبهات، بعضهم اعترف بدوره فى الصفقة وبعضهم الآخر اختفى فى ظروف غامضة.
تكشفت القضية ــ للمرة الأولى ــ فى الأيام الأخيرة لـ«القذافى» حين قاد «ساركوزى» عام (٢٠١١) من موقعه فى قصر الإليزيه العمليات العسكرية لحلف «الناتو».
قبل أربعة أيام ــ بالضبط ــ من العمليات العسكرية اعترف «القذافى» فى تسجيل صوتى للقناة الفرنسية الثالثة بتمويل حملة «ساركوزى».
انطوى ذلك الاعتراف ــ قرب النهايات ــ على تعمد فضح الرجل، الذى يطلب رأسه الآن.
فيما قال إن «صديقى العزيز ساركوزى مصاب بخلل عقلى».
كان ذلك تقديرا سياسيا خاطئا لطبيعة الصفقة وطبيعة الرجل دفع ثمنه حياته اغتيالا وتمثيلا بجثته.
هكذا ينتهى عادة هذا النوع من الصفقات بمآس سياسية وإنسانية.
إذا لم يكن هناك نظام يستمد قوته من شعبه فإن انكشافه أمام احتمالات السقوط مسألة وقت.
ما يحدث فى قصور الحكم، هنا وهناك بامتداد الخريطة العربية، من صفقات مماثلة ينذر بمآس مقاربة.
منذ عام (٢٠١٣) بدأت تحقيقات وتواترت شهادات وأدلة، بعضها موثقة، تثبت التهمة على الرئيس الأسبق.
كان دور الصحافة الفرنسية حاسما فى متابعة الملف وكشف خفاياه.
وكان التوقيف الاحترازى لـ«ساركوزى»، كأى متهم بفساد وغسيل أموال وتجاوزات مالية وضريبية ومخالفة قوانين الانتخابات، نقطة الذروة فى قصة قد تقضى المحاكم بإيداعه خلف قضبان السجون، كأول رئيس فرنسى يلقى هذا المصير.
ذلك السقوط يؤذن بإعادة فتح ملف الفساد المستشرى فى النخبة السياسة الفرنسية الحاكمة.
هناك قصص رويت عن فساد رؤساء سابقين، أموال دفعت ومجوهرات أهديت من دول إفريقية مقابل الصمت على تجاوزاتهم المريعة بحقوق مواطنيها.
وهناك وقائع نشرت عن سوء استخدام السلطة طالت رئيسين هما «فاليرى جيسكار ديستان» و«جاك شيراك».
فى الانتخابات الأخيرة خسر المرشح الرئاسى الأوفر حظا «فرانسوا فيون» السباق إلى الإليزيه على خلفية اتهامه باختلاس أموال عامة والاحتيال بإسناد وظائف وهمية لزوجته وولديه.
كان الاتهام بتوقيته ورسالته داعيا إلى السقوط المتزامن للحزبين الكبيرين المهيمنين على الحياة السياسية الفرنسية ــ «الجمهوريون» و«الاشتراكى» ــ فى الانتخابات الرئاسية والنيابية على التوالى وصعود ظاهرة «إيمانويل ماكرون» على نحو غير متوقع.
إذا ما فشل الرئيس الحالى «ماكرون» فى معركة نزاهة الحكم، أو نالته اتهامات من هذا النوع، فإن صعود اليمين المتطرف إلى السلطة مسألة شبه محتمة.
عندما يفقد الفرنسيون ثقتهم فى نخبتهم السياسية قد يضعها فى أقصى اليمين.
بقياس على أحوال نخب العالم العربى فقد توضع الثقة حيث التطرف الدينى ــ وهذه كارثة تاريخية متكاملة الأركان.
لم يكن «ساركوزى» وحده فى التورط بفساد، لكنه الأشد اندفاعا بلا حياء فى طلب الأموال مقابل المواقف.
ولم يكن «ساركوزى» وحده فى غزو «الناتو» لليبيا باسم حماية أهلها قبل أن يوضع مصيرهم لصراع الميليشيات وجماعات العنف والإرهاب وتحت سيف التقسيم المحتمل.
كان معه ــ من أصدقاء «القذافى» القدامى ــ رئيس الوزراء الإيطالى «سيلفيو بيرليسكونى»، الذى عاد مجددا بقوة للحياة السياسية بعد الانتخابات النيابية الأخيرة.
كلاهما عقد صفقات وادعى صداقات، لكنهما فى لحظة الحسم لم يتورعا عن تدمير ليبيا بلا رجفة عين.
إنها اللعبة الكبرى داخلة فيها مصالح عليا وترتيبات لموازين قوى فى جنوب البحر المتوسط.
وهذه مسألة تحالفات استراتيجية تتجاوز بما لا يقاس أى صفقات سرية أقرب إلى السرقات الشخصية، كالتى أوقف بسببها «ساركوزى».
وفق أصول نفس اللعبة جرى تحطيم العراق عند احتلال عاصمته بغداد عام (٢٠٠٣) وتفكيك دولته وجره إلى صراعات مذهبية وعرقية مفتوحة، كما جرى السيناريو معدلا فى سوريا ودول عربية أخرى.
كان على الخط نفسه رئيس الوزراء البريطانى «تونى بلير» ووزيرة الخارجية الأمريكية «هيلارى كلينتون» وليبيون تصوروا أن الخلاص ممكن من بوابة تدخل «الناتو»، وهو رهان دمر ليبيا ووضعها على حافة الانتحار الداخلى.
الأهداف المقصودة تتجاوز سعى «ساركوزى» للتخلص من عبء الصفقة السرية على مستقبله السياسى بإنهاء نظام «القذافى» الطرف الآخر فيها إلى تفاهمات استراتيجية ذات طابع جماعى لها صلة بإعادة ترتيب المنطقة ورسم خرائطها من جديد ودمج إسرائيل فى تفاعلاتها لاعبا محوريا.
المثير فى قصة «ساركوزى» أن طموحه بلا سقف واندفاعاته بلا حد حتى أنه طلب الرئاسة مجددا فى انتخابات (٢٠١٧) رغم خسارته قبل خمس سنوات أمام «فرانسوا أولاند».
باليقين كان من أسبابه طلب الحصول على حصانة رئاسية تمنع ملاحقته جنائيا.
بمقاربة ما فهو الوجه الفرنسى لرئيس الوزراء الإيطالى الراحل «جوليو أندريوتى»، الذى تحطمت سمعته تماما بانكشاف علاقاته الوثيقة مع عصابات المافيا، لكنه استعار أساليبها دون ارتباطاتها.
وباليقين فإن خروجه من الحلبة السياسية داعٍ لارتياح واسع فى أوساط عديدة، بينهم الوسط الرئاسى الحالى، وداخل حزبه الذى أنهك بسبب تفشى الفساد فى نخبته، كما فى الصحافة التى قادت الحملة عليه.
هذه لحظة تصفية حساب مع إرثه، الذى ولد عداوات عميقة.
قبل بدء الانتخابات الفرنسية عام (٢٠٠٧) بأسبوع مر على القاهرة الكاتب والدبلوماسى الفرنسى «إريك رولو».
كان لديه ما يقوله بحكم قربه لسنوات طويلة من الرئيس الاشتراكى «فرانسوا ميتران» فى قصر الإليزيه مستشارا مقربا عن تلك الانتخابات، التى خاضتها ضد «ساركوزى» المرشحة الاشتراكية «سيجونيل رويال»، التى كان ينظر إليها ــ عن معرفة بكفاءتها ــ كرئيسة واعدة.
على عشاء فوق باخرة نيلية، بدعوة من الفقيه القانونى ونائب رئيس الوزراء فيما بعد الدكتور «حسام عيسى» ضمت ثلاثتنا، أخذ يروى ملاحظاته على شخصية «ساركوزى» كرجل طموح وسوقى.
فيما روى أنه من منصبه وزيرا للداخلية تحت رئاسة «جاك شيراك» أغلق تليفزيونا كان ينقل كلمة الرئيس أمام صحفيين وإعلاميين متسائلا عما يغريهم فى الاستماع إلى هذا الهراء.
لم يخطر ببال أحد فى ذلك الوقت أنه سوف يحصد الانتخابات مدعوما بتمويلات ليبية مفتوحة، أو أن حديثه عن هراء «شيراك» محض ألعاب صغيرة قياسا على ما كان جاريا فى السر من صفقات تخالف القوانين التى يفترض بأى رئيس أن يحفظها.