استعمار المعونات .. ماذا تغير؟ - عمرو عبدالقوى - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 11:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

استعمار المعونات .. ماذا تغير؟

نشر فى : الإثنين 21 أبريل 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 21 أبريل 2014 - 8:00 ص

قبل ثورة ٢٠١١ كانت المنح والمعونات الخارجية تلعب دورا كبيرا فى تشكيل السياسة الاقتصادية للحكومات المصرية المتعاقبة. وبعد الثورة مازالت المنح والمعونات الخارجية تلعب دورا قويا فى تشكيل السياسة الاقتصادية لحكومات ما بعد الثورة، بل زادت أهمية تلك المعونات بسبب الركود الاقتصادى الحاد الناتج عن طول الفترة الانتقالية. والسؤال البديهى فى هذه الحالة يجب أن يكون: ماذا غيرت الثورة بخلاف إهدار ثلثى احتياطى النقد الأجنبى؟

إذا بحثنا عن الإجابة فى سياسات وتصريحات السياسيين والمسئولين بعد الثورة نجد أنه لا يوجد تغيير جوهرى، فما زالت التصريحات الصحفية هى الشاغل الأهم لمسئولى الحكومة، وفى هذه التصريحات اللغة المستخدمة لم تتغير كثيرا، فالمشاريع القومية (والتى يعاد تدوير أغلبها من ملفات قديمة) تشكل محورا أساسيا لأنها ستوفر مئات الآلاف من فرص العمل وستقوم بحل جذرى لجميع مشاكلنا المستوطنة، وطبعا سنستخدام أكبر الشركات والخبراء الأجانب فى تنفيذها لضمان مواكبتها للمعايير الدولية.. يعنى «حتكسر الدنيا!»... أما برامجها التنفيذية فما زالت تحركها الأولويات السياسية لا الاقتصادية أو التنموية.. إذا فماذا تغير؟

قبل الثورة كانت تلك اللغة متناسقة مع أولويات النظام السياسى والذى كان يتعامل مع الشعب المصرى على أن هذا أفضل ما يناسبه و«ليس فى الإمكان أفضل مما كان». فهو شعب تغلب عليه الأمية والفقر فأولوياته تنحصر بالدرجة الأكبر فى الجرى وراء لقمة العيش، مما يسهل إدارته... ولكن لذلك قامت الثورة، فالشعب المصرى اختلف مع هذه الرؤية وكان رأيه أنه يستحق أكثر، يستحق نظاما عادلا فى توزيع خيرات البلد، ويستحق نظاما يحترم شعبه ويعنى بالدرجة الأولى ببناء علمه وصحته، ونظام يهتم ببناء مؤسسات البلاد التنموية والإنتاجية بما يقلل من اعتمادنا على العالم الخارجى ومعوناته ومنحه.

•••

الأمر الواضح والذى يدعو للانزعاج هو أن القائمين الجدد على الدولة مازالوا غير قادرين على الخروج برؤيتهم خارج الأطر المتأصلة والمكونة للغة الدولة المصرية (العميقة)، وبالتالى قد تتغير الشعارات ويبقى الأسلوب والمنهجية فى جوهرهما واحد.

ولكى لا يأخذنا الحديث الواسع إلى الحلقات المفرغة التى نشعر فى نهايتها بقلة الحيلة فننهى حديثنا بـ«ربنا يستر»، دعونا نركز على موضوع المنح والمعونات الدولية والغرض منها. فى المنظومة الاقتصادية التى تشكلت فى العقود الماضية أخذت المعونات دورا محوريا جعل منها عنصرا أساسيا فى إدارة الميزانية فلا يمكن التخلى عنه، حتى سلبت منا استقلاليتنا السياسية. وظهر ذلك بتجلى فى التخبط الغريب الذى صاحب مسرحية قرض البنك الدولى بعد الثورة. هل اصبحت المعونات الدولية غاية فى حد ذاتها لأننا لا نرى وسيلة أخرى لحل مشاكلنا الاقتصادية، وبالتالى فهى الوسيلة الوحيدة لسد العجز الحتمى والناتج عن سوء الإدارة المزمن؟ لقد اصبح من الأسهل والأكثر أمنا للمسئول الحكومى انتهاج نفس السياسات السابقة حتى لا يواجه خطر التجربة واحتمال الخطأ والمساءلة.

لذلك نرى شبح نفس التعامل التقليدى مع المنح والمعونات التى تقدمت بها الدول العربية بعد الموجة الثانية للثورة، والتى تتميز بنية صريحة للمانحين فى المساهمة بها فى إعادة بناء حقيقى للاقتصاد المصرى، لأن الجميع ايقن بعد أن ظهرت بتجلٍ مخيف معالم خريطة الشرق الأوسط الجديد التى تبناها الغرب واستغل معوناته الاقتصادية وجيوشه لتحقيقها.

السؤال الأهم هل نرى نحن المصريين الفرق؟ هل نستطيع الصعود فوق صعوبة اللحظة الراهنة والنظر للأمام وتحديد معنى ومتطلبات إعادة بناء حقيقى للاقتصاد المصرى، وبالتالى ما هو الدور الجديد الذى يجب لهذه المنح أن تلعبه؟

•••

المشاريع القومية الحقيقية والتى يجب علينا تبنيها فى هذه المرحلة الفارقة كثيرة ومن ثم فقد أعرب الإخوة المانحون عن استعدادهم للاشتراك فى تمويل العديد منها طالما كان التطبيق داخل اطار تنموى حقيقى ومستدام. ومن هذه المشاريع التى يمكن لنا أن نناقشها كمثال فى هذا المقال هو خطة بناء شبكة من صوامع القمح فى أنحاء الجمهورية كجزء من خطة التأمين الغذائى لمصر. ومع أن المنحة لا تحدد كيف يتم التنفيذ أو من أية دولة يتم التوريد، إلا أن الجانب المصرى عادة ما يفضل اللجوء إلى التعاقد مع جانب أجنبى من مبدأ أنه صاحب الخبرة والعلم.

وصومعة الحبوب تتكون بصورة مبسطة من اسطوانة للتخزين مصنعة من الصلب الخاص تركب على قواعد خرسانية، وشبكة كهروميكانيكية لتحريك الحبوب، تشغلها منظومة تحكم الآلى الكترونية. الصلب من نوع خاص لا يصنع إلا فى عدد قليل من المصانع عالميا ومن ثم فيجب استيراده، وحيث أن نظم التحكم الآلى تعتبر تكنولوجيا متطورة فبالتالى يفترض أيضا بأنها هى الأخرى يجب أن يكون مصدرها دوليا، بالتالى ينتهى الأمر على أن المكون المصرى ينحصر فى القواعد الخرسانية والأعمال المدنية. اذن من المنطقى أن يذهب أغلب العقد إلى مورد دولى.

والسؤال الذى نطرحه هنا هو هل الصومعة وسيلة أم غاية؟ هل هى وسيلة لتخزين الحبوب أم يمكن لها أن تكون وسيلة أيضا لبناء استقلالية اقتصادية وأمنية؟

أن يكون صلبا مستوردا فلا مشكلة فيه لأنه مادة خام لها بدائل، أما العقل المشغل لهذه المنظومة فله أهمية أعلى بغض النظر عن حجم قيمته المالية بالنسبة للصلب. فبدونه تتحول الصومعة إلى هيكل حديدى لا قيمة له، كما اكتشفت إحدى الشركات المحلية عندما غادر المورد الأجنبى المشروع قبل إنهاء الأعمال مصطحبا معه برنامج التحكم الآلى. ففى هذه الحالة منظومة التحكم الآلى تصبح المفتاح الفعلى لاستقلالية القرار، وليس فقط برنامج تشغيل. ومن هذا المنطلق يمكن لنا اذا ما قررنا النظر إلى مشروع الصوامع هذا كوسيلة إلى جانب كونه غاية لتخزين الحبوب، أن نستغله فى الاستثمار فى تطوير قدرات الشركات المصرية فى بناء تلك النظم والبرامج، فهى تعتمد على عقول يوجد منها الكثير، ومعرفة متوافرة إلى حد كبير وفى مجال قد اثبتت فيه الشركات المصرية قدراتها، حتى أنها نجحت فى تصدير مثل هذه الخبرات إلى دول عدة. حتى وإن اعتمدت هذه النجاحات على اجتهادات فردية فى أغلب الأحيان.

•••

فى حالة وضع رؤية استراتيجية لبناء قدراتنا المحلية فى مجال التحكم الآلى والبرمجيات يمكن أن يستغل هذا المشروع كفرصة للاستثمار فى الشركات المصرية فنخرج منها ليس فقط بعدد كبير من الصوامع تضمن لنا الأمن الغذائى، بل أيضا بعدد من الشركات المصرية التى تكون اثبتت قدراتها فى تطوير وتفعيل منظومات تشغيل تلك الصوامع واصبحت بالتالى قادرة على تصدير تلك القدرات وبناء ميزة تنافسية للصناعة المصرية فى مجال لدينا فيه مقومات كافية.

إلى جانب ذلك هناك بعد آخر مهم وهو ما يمثله بالنسبة لاستقلالية القرار الاقتصادى، فتحكمنا فى منظومة التشغيل تحررنا من انصياعنا لأية اشتراطات غير مناسبة فى عقود التنفيذ، وتكون المعونات الخارجية الممولة للمشروع قد ساهمت بالفعل فى تحرير القرار السياسى خاصة فيما يخص موضوع أمن قومى مثل الغذاء.

لكى تكون الثورة بداية تغيير نوعى يجب أن نبدأ بتحرير فكرنا الإدارى التقليدى الذى يرى فى المعونات الخارجية وسيلة لحل مشاكل عجز الميزانية وتنفيذ مشروعات وفقط، آن الاوان أن يتحرر الفكر الإدارى ليوجه تركيزه على المستقبل، وعلى استثمار المعونات فى بناء قدرات الإنسان المصرى والمؤسسات المصرية على تطوير قدرات وامكانات تميّزها على الساحة الدولية ونحرر بالتالى قرارنا السياسى والاقتصادى من استعمار المعونات.

عمرو عبدالقوى أستاذ العمارة بالجامعة الامريكية بالقاهرة
التعليقات