اقتصاديات وعادات رمضان - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 7:59 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اقتصاديات وعادات رمضان

نشر فى : الإثنين 21 مايو 2018 - 9:10 م | آخر تحديث : الإثنين 21 مايو 2018 - 9:10 م

تناولت العديد من الدراسات والمقالات الأثر الاقتصادى لصيام شهر رمضان، وبعض تلك الدراسات أخذت فى الاعتبار تفاوت طول ساعات النهار بين الدول، فى محاولة للوقوف على العلاقة السببية بين طول ساعات الصيام، وتراجع معدلات نمو الناتج المحلى الإجمالى، ومن ذلك دراسة «فيليب كومبانتى» و «ديفيد دروت» المنشورة فى عام 2015 فى جريدة الاقتصاد الفصلية. لكن تداخل العوامل والمؤثرات كان من أبرز محددات هذا النوع من الدراسات، إذ يصعب التأكيد على أن عبادة الصيام كانت سببا فى تراجع إنتاجية العامل مثلا، أو اضطراب العرض والطلب فى سوق العمل، لأن العادات التى تشكلت عبر قرون فى الدول التى تمارس تلك الشعائر يمكنها أن تؤدى ذات الأثر، فتصبح العلاقة التى يريد الاقتصادى أن يقيسها محض علاقة ارتباط لا علاقة سببية، أى أن البلاد التى يصوم فيها الناس ساعات أطول، والسنوات التى يحين فيها شهر رمضان فى فصل الصيف، ترتبط عرضا مع تراجع الإنتاجية واضطراب سوق العمل وتراجع معدلات النمو نتيجة لتداخل عدد كبير من المتغيرات.
كذلك لا يمكن إغفال الفرق الكبير بين النظرية والتطبيق، بين الشعيرة وممارستها، بين العادة والعبادة، فالغرض من شعيرة الصيام والحكمة من ورائها يتجليان فى حض النفس على الزهد والتقشف والالتزام، واستشعار آلام الجوع التى يكابدها الفقراء، والتحرر من ربقة الاستهلاك النهم التى تطوقنا بعادات سيئة طوال العام، ولا نستطيع الفكاك منها إلا بالتوقف عنها والتدبر فى خلق الله وعلة الوجود بمعى خاوية.. فإذا تحولت ممارسة تلك العبادة فى عادات بعض الشعوب إلى نقيض ما شرعت من أجله فلا عجب أن تؤتى أثرا عكسيا، فترى الناس يستهلكون فى شهر الصيام والتقشف مواد غذائية وترفيهية أكثر من تلك التى يستهلكونها فى سائر شهور العام! تلمس ذلك فى استعدادات الشهر الفضيل بتعبئة المبردات بمختلف أصناف الطعام والشراب، وبكميات كبيرة نادرا ما تتوافر فى غير رمضان! تلمس ذلك أيضا فى منتجات الترفيه والإلهاء التى تتخم بها الفضائيات فى هذا الشهر تحديدا دون سائر الشهور! وكأنما أفرغ بعض الصائمين شهر رمضان من غايته، وأعرضوا عن حكمته، فلا عجب أن ترصد الدراسات أثرا اقتصاديا سلبيا، يرتفع معه حجم الاستهلاك السلعى والخدمى وتتراجع الإنتاجية، ويتأخر معدل النمو، وترتفع فاتورة الكهرباء نتيجة الغلو فى السهر أمام الشاشات وفى الخيمات الرمضانية وعلى المقاهى!
ومع ذلك، وعلى الرغم من تباين الغرض من الصيام وأسلوب ممارسته فى بلادنا فقد رصدت الدراسات آنفة الذكر شيئا لافتا! فقد اقترن الأثر الاقتصادى السلبى لطول ساعات الصيام ولشهر رمضان بصفة عامة، بتقييم ذاتى يتميز بالرضا والسعادة على مستوى الأفراد. تتراجع قيمة المؤشرات الاقتصادية أمام الغاية المثلى لدولة الرفاهة، والتى تتمثل فى تحقيق السعادة لأفرادها. العائد النفسى الإيجابى لشعيرة الصوم، مازالت تؤتى ثمارها على الرغم من عبث العابثين بأهدافها، وحفز قيم الاستهلاك الشره بكل أداوت الحفز والحشد والتعبئة خلال شهر الزهد والعبادة! مازال شهر رمضان يلقى فى النفس ما تعظم به غلة الإنتاج القليل، تزداد به قدرة المواطن على تحمل الظروف الصعبة فى سائر العام، وهذا نوع من الوفورات والمزايا الإضافية التى لا يمكن قياسها بالنظر إلى هذا الشهر كوحدة مستقلة أو نقطة فى الزمن.
***
تستشهد الجارديان بأحد أعدادها الصادر فى عام 2015 بمقال نشر بجريدة عربية فى يوليو من عام 2013 عن الآثار الاقتصادية السلبية للصيام، والتى قدرتها دراسة بتراجع فى الإنتاجية يتراوح بين 35% و50% كنتيجة مباشرة لتخفيض ساعات العمل بالنهار، وإرجاء العديد من الاجتماعات الهامة إلى ما بعد رمضان! وتقدر ساعات العمل المفقودة خلال الشهر بنحو 42 ساعة عمل (إذا تم تخفيض عدد الساعات بمتوسط ساعتين يوميا فى شهر عمل يبلغ نحو 21 يوما بعد استبعاد العطلات الأسبوعية)، فإذا كان إجمالى ساعات العمل على مدى العام يبلغ نحو 1700 ساعة فإن هذا القدر من الخسارة يبلغ نحو 2.5% تراجعا فى الإنتاجية. ومع تراجع الإنتاجية واضطراب العمل المؤسسى بصفة عامة خلال شهر رمضان يمكن أن يتراجع الناتج المحلى الإجمالى بنحو 3% وفقا لذات الدراسة.
وإذ ارتبط شهر رمضان فى ضمير الأمة الإسلامية بالغزوات والفتوحات وفى مقدمتها غزوة بدر الكبرى، وفى ضمير الأمة العربية بحرب أكتوبر المجيدة، فإن ارتباطه اليوم بحالة الكسل العام، وتراجع الإنتاجية يؤكد علامات التناقض التى سبق أن أشرت إليها بين العبادة والعادة. وأن عبادة الصيام تحض على العمل والجهاد وتشحذ همة المرء كى يتصدى إلى مختلف مشاق الحياة بصبر وجلد. الصيام مشقة وابتلاء وكفارة للذنوب فى غير موضع، وكان السلف الصالح يتوقون إلى ظمأ الهواجر وهى الأيام شديدة الحر، تمحيصا لقلوبهم، وتأكيدا على أن صعوبة الامتحان تفرز من هم أهل لاجتيازه.
***
الأثر الصحى الإيجابى للصوم ليس مقطوعا به كما نتوهم فى عالمنا المغلق. هناك من يزعم بأن الضرر الصحى كبير على ممارسى شعيرة الصيام، وأن الطب الحديث يحث على تناول الإنسان جرعات صغيرة من الطعام والشراب طوال اليوم (ما بات يعرف حديثا برجيم اللقيمات، وهو نظام غذائى نبوى خالص منقول عن رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام)، وأن الانحراف الكبير عن هذا النمط الغذائى يعرض صاحبه لمشكلات صحية. مجددا ليس من الحكمة أن ترقى بالاجتهادات والدراسات إلى مرتبة اليقين، وأن تجرد الشعائر من طابعها الإيمانى، وأن تتجاهل المردود النفسى على صحة الجسم والعقل. من الاجتهادات العلمية الحديثة ما يدعو إلى التوقف عن تناول الطعام فترة طويلة تقدر بالأيام بغرض تنقية الجسم من السموم، وتلك أيضا لم تسلم من الجدل.
على كل حال لم يستحدث الإسلام الصوم، قال تعالى فى محكم تنزيله: «يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون»، وقد رخص الله الإفطار لغير المستطيع والمريض ومن على سفر، والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه. والآثار السلبية للامتناع عن الطعام والشراب تجدها جميعا متقاه ومتحوط ضدها فى النظام الغذائى النبوى الذى يحرص على تأخير السحور، وعلى زيادة المكونات الغذائية التى تمنح الطاقة والسوائل وتقلل الشعور بالظمأ، وعلى تحاشى التخمة والشبع. ما أعجز الإنسان عن بلوغ غاياته، بل ما أعجزه عن إدراك كنه وطبيعة تلك الغايات.
فى شهر رمضان المبارك حاول أن تكون صائما قائما مقتصدا، لا أن تتحول إلى واحد من تلك الكائنات الاستهلاكية التى اقتصرت أهدافها فى الحياة على الاستكثار من كل شىء: الطعام، الشراب، اللهو، الجنس، الحديث..حتى صارت تستهلك الوقت بنفس الكيفية والنهم التى تستهلك بها سائر الأشياء. الكائن الاستهلاكى يريد أن يقضى الوقت لا أن يستثمره، تسمعه يحدث صاحبه بهذا دون خجل: «دعنا نضيع الوقت فى شىء ما»!! يريد أن يضيع أهم نعمة من الله لحياة المخلوقات. الكائن الاستهلاكى يشعر بنشوة عابرة عند الاستهلاك سرعان ما يزول مفعولها فيبحث عن نشوة أخرى، لكنه فى سعيه الحثيث خلف نزواته لا يعرف معنى للسعادة، بل هو موثوق بحبل من الإحباط وازدراء الذات متصل، لا تزينه النشوات ولا تزيده إلا إيلاما.
الكائن الاستهلاكى ليس غنيا بالضرورة بل هو فقير النفس والروح أيا كان مستوى معيشته، هو معنى فقط بإثراء جسمه بالملذات حتى صار أقرب إلى الحيوانات منه إلى الإنسان. بالنسبة للشركات الكبرى التى تحكم العالم فعليا لا يمكن أن تتراكم الثروات فى غيبة هذا الكائن، ولا يمكن أن يستمر النظام الاقتصادى العالمى دون خلق مزيد من الحاجات الوهمية لدى هذا الكائن حتى يستمر فى البحث عن منتجات لإشباعها. هكذا دون مؤامرة خفية تنافس أصحاب تلك الشركات فى توظيف خبراء السلوك وعلماء النفس من أجل تحفيز السلوك الاستهلاكى عند هذا الكائن حتى يستمر فى إنفاق معظم دخله على منتجاتهم فيصير لحمه ودمه وقودا لماكينات تلك الشركات وليس مشتقات النفط.
فالإنسان يبحث عن السعادة فى كل شىء لكن قليلا من الناس من يدركونها، إما لأنهم يعيشون السعادة ولا يشعرون، أو لأنهم لا يعرفون عن أى شىء يبحثون، أو لأن السعادة ليست غاية نبلغها بل هى طريق نسلكه.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات