مطبخ موخيكا - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 12:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مطبخ موخيكا

نشر فى : السبت 21 يونيو 2014 - 5:40 ص | آخر تحديث : السبت 21 يونيو 2014 - 5:40 ص

سمعت كلامًا كثيرًا عن هيبة الدولة وضرورة الظهور أمام العالم بشكل يليق، سمعت أن السخاء فى الإنفاق يوجه إلى العالم رسالة بعودة الدولة القوية القادرة، وإن الجدران اللامعة والأرضيات المصقولة والنباتات النادرة إمارات على التقدم المنشود. سمعت لكننى لم أقتنع؛ لم أقتنع بأن العظيم يجب أن يرفل فى سترة باهظة الثمن وإلا قل احترامه بين الناس. لم أقتنع بأن المظهر المتواضع يهدر كرامة البشر.

أدهش رئيس أساقفة بوينس آيرس الناس باستخدام المواصلات العامة فى تنقلاته كسائر البسطاء، وباختياره الإقامة فى منزل يفتقر إلى مظاهر الفخامة والثراء الواجبين لمثل منصبه، وقد أصبح الرجل أخيرًا بابا للفاتيكان لكنه ظل على تواضعه وميله اللافِت إلى التقشف. منذ أسابيع قليلة وخلال زيارته الأولى للبرازيل، رفض السيارة المدرعة التى خُصِّصَت له، كما رفض الإقامة الفندقية الفاخرة مُفَضِّلا عليها غرفة عادية بمركز التعليم الأسقفيّ، ضاربًا بالتقاليد والبروتوكولات التى تقضى باستقباله بحفاوة وسخاء عرضَ الحائط. معروف عن البابا فرانسيس أنه يتنقل بسيارة عادية حتى اليوم؛ يراها بعض الناس غير لائقة بالمقام الرفيع، مع ذلك يحظى باحترام غير مسبوق. معروف أيضًا أنه لا يَتَحَرَّج مِن تكرار الحديث عن الفقر والفقراء والمحتاجين، وعن عالم أكثر تواضعًا وإنسانية.

•••

بعض المتواضعين لا علاقة مباشرة لهم بنشر الرسالات والتعاليم الدينية، لكنهم يملكون أفكارًا تبدو مشابهة لما يقدمه البابا فرانسيس. فى العام الماضى عرض خوسيه موخيكا ــ رئيس الأوروجواي ــ استخدام أجنحة القصر الرئاسيّ المهجور كمأوى للمشردين الذين لم تكفهم مراكز الإيواء، كما عرض منذ شهر تقريبًا استضافة مائة طفل سورى لاجئ فى المنزل الصيفيّ. موخيكا هو الرئيس الأفقر فى العالم؛ يرفض الإقامة فى قصور الرئاسة، ويتبرع بأكثر مِن ثُلثيّ راتبه للجمعيات الخيرية، ولا يحتفظ لنفسه إلا بما يكفى بالكاد مصروفات المعيشة العادية. لا يتنقل هو الآخر بسيارة فاخرة، ولا يتمتع بحراسة مُشَدَّدَة، لكنه يحظى بلقب الرئيس الأكثر سخاءً. نشرت الصحف فى الشهر الماضى صورة لموخيكا ممسكًا بدورق مياه فى مطبخه الريفيّ، حيث بدا رجلا رقيق الحال والحاشية، شديد البساطة.

•••

يتسع مفهوم التواضع لكثير من الأفعال غير التقليدية؛ كما يُفرِزُ الاهتمام الحقيقيّ بالآخرين أفكارًا وحلولا مبتكرة. جذبنى خبرٌ جاء مِن فنزويلا، مفاده أن الحكومة قررت تحطيم آلاف العربات والدراجات غير المستعملة، لا لشيء إلا لاستغلال هياكلها الحديدية فى بناء مساكن للمعدمين. قبل رحيله بسنوات بدأ الرئيس هوجو تشافيز حملة أطلق عليها حملة الإسكان الفنزويلية الكبرى، وعبرها تمكَّنَت آلاف الأسر الفقيرة من الحصول على بيوت تؤويها. فنزويلا بلد يسعى للخلاص من الفقر، وقد تعهد الرئيس الحالى نيكولاس مادورو بالقضاء عليه خلال أربع سنوات، أى قبل انتهاء ولايته الرئاسية، ويبدو أنه يبذل جهدًا للوفاء بالعهد.

•••

قادت الدولة المصرية خلال الأسابيع الماضية عملية تجديد شاملة لقصور الرئاسة؛ كسوة للسجاد الفاخر، أثاث إضافيّ، عمليات طلاء وتشجير وبناء صوب وإعادة دهن للأرصفة، تحسين أداء «النافورة»، استبدال الرخام فى «الفسقيات»، إزالة قضبان الترام من أمام أحد القصور ورفع كفاءة الشوارع المفضية إلى آخر، تكلفة قُدِّرَت بملايين الجنيهات. تذكرت مع سرد التكاليف، صورة ذات ابتسامة واسعة لوليّ عهد دولة خليجية، وخبر عن استئجاره ثلاث من جزر المالديف مقابل ملايين الدولارات. قيل إن وليّ العهد سيقيم على هذه الجزر لأيام مصطحبًا حاشيته ومستشفاه المتنقل ومئات من الحراس بغرض الترفيه، وبناءً على رغبته، لم يكن بمقدور السائحين أن يحلوا ضيوفًا على هذه الجزر خلال فترة إقامته فيها.

•••

تذكرت أيضًا صورًا جَمَعتها على مدار الشهور الأخيرة لمنتجعات مصرية فاخرة تطل على سواحل طويلة وبحيرات مصنوعة؛ تزينها وجوه نضرة مستريحة، وأسوار عالية. جمعت كذلك صورًا ملونة؛ لحملات أمنية واسعة تقوم بإزالة عشش متهالكة لا تقوى على المقاومة؛ تتناثر حولها وجوه بائسة، لا تحميها أسوار ولا جدران. صورٌ لأشخاصٍ فى العراء؛ لا استضافهم أحد، ولا واساهم أحد، ولا التفت إليهم مسؤول إلا فيما ندر، وقد ظل فقر الموارد عذرًا دائمًا.

يقول رئيس الأوروجواى إن المبلغ الضئيل الذى يتركه لنفسه يجب أن يكفيه، وإن كثيرين من أفراد شعبه يعيشون بأقل مِن هذا المبلغ. يقول أيضًأ إن مَن يعشق المال لا مكان له فى السياسة. صورة موخيكا ومطبخه رسالة أروع مِن أضواء ألف قصر.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات