(1)
التنزيل المدنى: هو آيات القرآن الكريم التى تنزلت على الرسول ([) بعد الهجرة، وسماها العلماء «المدنى» نسبة إلى «المدينة المنورة» مستقر الهجرة وموطن الدعوة، وقد شمل هذا التنزيل عدد 28 سورة بين الطوال والمئين والمفصل، فالطوال مثل سور البقرة وآل عمران، والمئين مثل سور الأحزاب والرعد، والمفصل أى السور صغيرة الحجم وهو أغلب السور الواردة فى ترتيب المصحف بعد سورة الحجرات، ويستطيع قارئ القرآن وسامعه أن يميز بين زمن التنزيل المكى والتنزيل المدنى إذا حاول تتبع هذه السمات الدالة على زمان النزول.
(2)
واجه المسلمون فى المدينة (يثرب) واقعا جديدا، إذ أصبح المجتمع يضم شرائح جديدة مثل الأنصار الذين استجابوا للدعوة من قبيلتى الأوس والخزرج، كما وجد داخل يثرب ثلاثة قبائل من اليهود هى قبائل (بنى قينقاع، بنى النضير، بنى قريظة) فضلا عن أعداد غير قليلة من المشركين من أهل يثرب، كما أن الحدود الخارجية للمدينة محاطة بقبائل يهودية أخرى مثل (تيماء/ خيبر/ وادى القرى) وغيرهم من القبائل العربية المشركة.
وبدأ التنزيل المدنى حيث الواقع الجديد، المتمثل فى «مشروع أمة» (شعب وأرض وغاية يسعى الجميع إليها)، وتتضح سمات التنزيل المدنى فى الدعوة إلى إزكاء مشاعر الود والجوار مع جميع الناس من آمن منهم ومن لم يؤمن «وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّة وَاحِدَة..» الأنبياء (92)، وكذلك «..وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ..» المائدة (2)، وتلمح فى التنزيل المدنى آيات بناء الأسرة على أساس من الشروط الصحيحة ومسئوليات الوالدين وواجبات الأبناء وحقوق الجار، وكذلك إنهاء موروثات تعدد الزوجات من المئات والعشرات إلى 4زوجات فقط إذا لزم الأمر.
فلا يتصور أحد أن القرآن جاء ليشرع التعدد، بل جاء لينظم هذا الأمر ويجعل له حدا وشروطا كذلك تنزلت أحكام الطلاق والظهار والتحكيم بين الزوجين ــ إذا حدث شقاق، ومادام الناس قد استقروا فى مجتمعهم ومارسوا ألوانا متعددة من الإنتاج فكانت تعليمات إنفاذ شعيرة الزكاة وإذا كان القادرون يكتسبون فإن عليهم إلتزاما حيال غير القادرين (الفقراء/ المساكين/ الغارفين/ إبن السبيل/ اليتيم/ المطلقة/ واللاعائل له) قال تعالى «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَة مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» التوبة(60).
(3)
ما كادت سنة تمر على هجرتهم حتى اضطر المسلمون لمواجهة قريش فكان لابد من التصدى لها فجاء التنزيل المدنى بتشريعات الجهاد «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ..» الأنفال (60)، وكذلك «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ..» الحج (39)، وكذا «وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ..» البقرة (190)، «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ..» البقرة (194).
كذلك تشريع الصيام «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» البقرة (183) ثم فريضة الحج «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ..» آل عمران (97)، وتتوالى تشريعات المجتمع الجنائية «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» النور (23)، وجاءت التشريعات المالية بتحريم الربا، فأهمية توثيق الديون وضرورة الإشهاد، كما حبب القرآن للناس ضرورة إقامة جميع معاملاتهم على تعاقدات مسبقة ووجوب الوفاء بالعقود.
وكما كان الوحى يحاور المشركين الوثنيين فى مكة، أما فى المدينة فالوحى يخاطب....
اتجه النداء فى التنزيل المدنى اتجاها جديدا، فإذا توجه إلى عموم الخلق كان النداء السابق (يا أيها الإنسان) أما إذا خاطب المؤمنين استعمل (يا أيها الذين آمنوا..).