ذلك الحزن وما يتطلب - أهداف سويف - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:13 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ذلك الحزن وما يتطلب

نشر فى : الخميس 21 أغسطس 2014 - 7:45 ص | آخر تحديث : الخميس 21 أغسطس 2014 - 11:58 ص

يرقد أحمد سيف الإسلام عبدالفتاح، المحامى، فى عزلته الخاصة، فى منتصف الطريق بين زنزانة ابنه الأكبر، علاء عبدالفتاح، وزنزانة بنته الصغرى، سناء سيف. يمر نيل مصر، فى رحلته المستمرة من الجنوب إلى المتوسط، على مقربة أمتار من الثلاثة المُفَرَّق بينهم: علاء أولا، فى سجنه فى ليمان طرة، ثم سيف، فى وعيه الغائب عنّا فى مستشفى المنيل التخصصى، ثم سناء، فى سجنها فى القناطر. علاء وسناء حبيسا نظام لا يحب من يطلب الحرية ولا يُثَمِّن حياة الأفراد بأيامها وساعاتها ودقائقها، وأحمد سيف حبيس حالة نستطيع ـ إن أردنا ـ أن نرجعها إلى سنوات عمر قضيت فى تعاملات متباينة مع نفس النظام ـ لكن هذا التداعى لا فائدة ترجى منه الآن، فنقول فقط إنه يرقد اليوم، هذا الرجل الذى رأى أقذر وأوضع ما فى الناس وأنبل وأجمل ما فيهم، يرقد على ظهره، الملاءة البيضاء تغطيه حتى كتفيه، من تحتها تنزلق أسلاك وأنابيب توصل جسده بالأجهزة التى تجعل غرف العناية هذه أشبه بكبائن قيادة المركبات الفضائية ـ وعلى وجهه تعبير حزن شامل.

لن أسرد تاريخ أحمد سيف النضالى، ولا الحقوقى، فالإنترنت هذه الأيام ملىء بذكره، والجرائد الورقية تحمل مقالات وشهادات عنه. سأقول فقط أن سيف مرجعنا فى الأسرة ـ ليس فقط للإشكاليات القانونية ولكن، والأهم، الأسئلة الأخلاقية. سأقول إن اجتماعاتنا العائلية يكون لها نكهة خاصة لوجوده، بالرغم من أنه قليل الحديث، يتكلم حين نطلب منه رأيا أو تعليقا، فيبهرنا دائما بغزارة معلوماته وترتيبها، ويتنازل عن الكلمة بكل يسر إن اختطفها آخر، فتظل أنت تنتظر أن تعود إليه ليكملها. يشكل مركزا فى المكان حتى لو اتخذ ركنا منزويا، وغالبا ما يجتمع حوله الشباب والصغار. صارم الفصل دائما بين ما يقوله كمعلومات وواقع، وما يقوله كحدس وتخمين. متسامح إلى أقصى درجة، ويصر على أن يجد «شعرة» الخير فى إنسان تقريبا مصنوع من الشر. هادئ خفيض الصوت حتى إنى تفاجأت ـ بعد سنوات من علاقتنا العائلية ـ حين سمعته يتحدث من مِنَصَّة فيخطب بحماس وبصور بلاغية وبتأجيج للمشاعر. التفتُ متعجبة إلى ليلى (أختى وزوجته) فقالت ضاحكة: «إنت ناسية إنه كان قيادى طلابى فبيعرف يعمل ده؟»

التمنيات والدعاء والرسائل تنهمر علينا، ونشعر بكم الحب والدعوات الصادقة والطاقة الإيجابية التى يرسلها الكثيرون لسيف، ومنى توصل إليه كل كلمة وكل نبضة. وأورد هنا واحدة فقط من الرسائل التى أتتنا والتى رأيناها تلمس شيئا فى جوهر الرجل: «أحمد سيف شخصية خرافية أسطورية... كلما صمت علا صوته وكلما توارى اشتد حضوره... بل إنى كلما ظننت أنه نائم أو غافل اشتعلت عيناه وانقض على البلطجية وأنقذ حارة بأكملها وكأنه فارس على فرس. لا أعتقد أنى رأيت شخصا يشع منه الضعف والقوة أو الرقة والصلابة فى آن واحد مثل أحمد سيف. هو تعريف من تعريفات المقاومة.. سلامتك». آمين يا رب.

وأحمد سيف، المحامى الحقوقى، والخبير الدستورى، يؤمن بمؤسسة القضاء فى مصر. وربما نرى انعكاس إيمانه هذا فى نوعية الظلم الذى اقحم نفسه على وعى ابنته الوسطى، منى سيف، فلم تستطع أن تدير ظهرها له وتبنت قضيته منذ فبراير ٢٠١١، وهو الظلم الكامن فى محاكمة المدنيين عسكريا، فأنشأت منى، مع مجموعة من الشباب، الحركة التى تطالب ـ لا تزال ـ بألا يحاكم المدنى إلا أمام قاضيه «الطبيعى» ـ أى المدنى. وربما نرى انعكاس إيمانه هذا أيضا فيما قامت به ليلى، مساندة لابنها وللشباب المتهم معه فى قضية «ماسبيرو» فى نوفمبر ٢٠١١ حين أضربت عن الطعام مطالبة ـ ليس بإخلاء سبيلهم، وإنما بتحويل قضيتهم إلى القضاء المدنى. وقد حدث. وحكم لهم القاضى المدنى وقتها بالبراءة، بل وأمر بمحاكمة شهود الإثبات ضد علاء بتهمة تزوير الشهادة.

اليوم اختلف الأمر. رأينا من الشواهد والممارسات فى السنتين الماضيتين ـ وخبرناها فى أسرتنا وأصدقائنا ـ ما لا يشجع على الإيمان بمنظومة العدالة فى مصر. بل وقد تحدث أحمد سيف نفسه فى مؤتمر حقوقى بعنوان «أذرع الظلم الثلاثة فى مصر» (وهى الداخلية، والنيابة، والقضاء) فى ٤ يناير ٢٠١٤، وكانت الشهادات والأوراق البحثية المقدمة فى هذا المؤتمر دامغة. بالرغم من كل هذا، لن أتحدث أبدا نيابة عن أحمد سيف، وسنرى ما يقوله هو حين يعود إلينا، بمشيئة الله، من غيبته المؤقتة هذه. لكنى أقول عن نفسى، وربما عن بقية أسرتنا، وبألم شديد: لم نعد نؤمن بحتمية العدالة فى بلادنا فى وقتنا الحالى.

وإن لم يكفنى ما يحدث لأسرتنا فهناك الرسائل التى تأتينى من شباب مصر فى السجون. عمر عبدالمقصود، الذى استأنفت النيابة على الاستئناف الذى أخلى سبيله فظل ـ إلى الآن ـ حبيسا! عبدالرحمن الجندى الذى ضاعت عليه سنة أولى هندسة، باسم الذى لم يتمكن من زيارة أبيه فى مرضه وخرج (شكرا وزارة الداخلية) سويعات لتلقى العزاء فيه، أحمد مصطفى، الذى يقول عن نفسه وعن زميل الحبسة: «شابان مصريان فى أوائل الثلاثينيات، يشغلان مناصب مرموقة بشركات كبرى، وحياتنا الأسرية كانت هادئة ومستقرة إلى أن تم القبض علينا عشوائيا من مدينة نصر يوم ٢٤ يناير، وتم إدراجنا داخل قضية تظاهر والانضمام لجماعة الإخوان وباقى التهم المعروفة الجاهزة ونحن محبوسون منذ ذلك الحين ولمدة قاربت على السبعة أشهر وغير معلوم النهاية..!!» لنا مقالات قادمة فى هؤلاء وغيرهم. أما القضية التى أعرفها جيدا، وأعرف كم وتنوع الانتهاكات التى تتمتع بها فهى قضية «مجلس الشورى»، وفيها يحاكم علاء عبدالفتاح وأربعة وعشرون من الشباب.

حاولت أن أكتب فى تفاصيل هذه القضية فى ١٩ يونيو، ولعل قارئى الكريم يتذكر أن المقال الذى نُشِر لى فى ذلك اليوم كان بعنوان «نوتة صغيرة» قلت فيه أن «المقال الذى كتبته، وجده القسم القانونى بالجريدة غير صالح للنشر». نويت أن أنشره فى صفحتى فى الفيسبوك لكنى لم أفعل لأن رأى أحمد سيف وقتها كان أن الوقت ما زال مبكرا لاتخاذ هذه الخطوة.

اليوم، نحن نعيش حالة مختلفة؛ أحمد سيف فاقد الوعى، ونحن ندرك ـ بالرغم من أملنا الكبير فى لطف ربنا وثقتنا فى أطباء وتمريض قصر العينى ـ أن حياته فى خطر. وهذا الوضع كان القشة التى قصمت ظهر صبر علاء، ابنه، فأعلن خروجه على الدور المرسوم له فى «مسرحية» محاكمته ودخوله فى إضراب مفتوح عن الطعام حتى يستعيد حريته التى يحتاجها لمساندة أبيه وأمه وأسرته. سقط عنا الإصرار على الإيمان بنزاهة القضاء، فوجب علينا، إذن، أن نوضح الجوانب المسرحية والعبثية فى قصة المحاكمة هذه، وسيستوجب هذا أن نتكلم عن انتهاكات وتواطؤ القضاء والنيابة. سأكتب فى هذا فى الأيام القادمة، وقد كتب علاء نفسه مقالا طويلا يحكى فيه حدوتة هذه القبضة وهذه الحبسة. سنجد مكانا ننشر فيه هذه المعلومات ـ إن لم يكن هنا، فى بيتى، فى الشروق، ففى مكان آخر.

يؤلمنا كلنا تعبير الحزن المرتسم على وجه أحمد سيف فى غياب التحكم الجميل الذى ربما كان يخفيه عنا. ربما كان هو، أكثر من أى شىء، الذى دفع بابنه لأن يغامر بحياته ليكون إلى جانبه.

بيان من اسرة علاء عبدالفتاح

علاء مضرب عن الطعام: «لن ألعب الدور الذى رسموه لى»

فى الثانية من صباح الأحد ١٧ أغسطس، زار علاء والده، أحمد سيف الإسلام، فى العناية المركزة فى المستشفى بعد أن دخل فى حالة غياب عن الوعى.

قبلها بثلاثة أيام كانت زيارتنا الأخيرة لعلاء فى ليمان طرة، وكانت أخبار والده وقتها مطمئنة، ولم تكن هناك وسيلة بعد هذا لنخبره بتدهور الحالة. لذا جاء علاء إلى المستشفى يوم الأحد سعيدا مطمئنا، يحمل الزهور ويتطلع إلى الحديث مع أبيه، وفوجئ بأنه فى العناية المركزة وفاقد الوعى.

كان مشهد أبيه على فراش المرض غائبا عن الوعى نقطة فاصلة لعلاء. وفى نهاية هذه الزيارة قرر أنه لن يتعاون مع هذا الوضع العبثى الظالم حتى لو كلفه ذلك حياته.

أخطرنا علاء بقراره هذا فى زيارتنا التالية لليمان طرة، وكان له وقع صعب جدا علينا، لكننا ـ فى النهاية ـ نتفهم شعوره بالغضب والقهر، واحتياجه لأن يُدخِل ما يستطيع من صدق على الموقف العبثى والمأساوى الذى يعيشه. علاء حسم أمره وأخذ المبادرة. يقوم بفعل تليق خطورته بجسامة الحدث الذى يعيشه وبحجم ألمه.

علاء فى السجن للمرة الثالثة منذ اندلاع ثورة ٢٥ يناير، وفى كل مرة تأتيه السلطة ـ أيا من كانت ـ بتهمة وهمية جديدة. وقد كلفه ذلك الكثير: حرموه أولا من حضور ولادة ابنه، وأبعدوه عن أسرته، وتسببوا فى تعثره فى عمله فى شركة البرمجيات التى أقامها. ثم حبسوا سناء، أخته الصغيرة، لمطالبتها ـ فى مسيرة الاتحادية ـ بحريته وحرية كل المعتقلين ظلما. وأخيرا جاء ما لم يستطع تحمله وهو أنهم منعوه من الوقوف إلى جانب أبيه ومساندته حين دخل ليجرى جراحة قلب مفتوح، ومنعوه من زيارته إلى أن غاب عن الوعى.

لذا فنحن، أسرة علاء ورفاقه واحباؤه، نُحَمِّلُ هذا النظام ـ ليس فقط مسئولية حرمان أحمد سيف الإسلام وليلى سويف من وقوف علاء معهما فى هذه اللحظات الأصعب من حياتهما، ولكن نُحَمِّلُه أيضا مسئولية سلامة علاء الذى دخل مساء الاثنين ١٨ أغسطس فى إضراب تام عن الطعام حتى الإفراج عنه.

التعليقات