الحلقات الوسطى - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحلقات الوسطى

نشر فى : الإثنين 21 سبتمبر 2015 - 4:45 ص | آخر تحديث : الإثنين 21 سبتمبر 2015 - 4:45 ص

حينما كنت أحاول أداء ما كلفت به فى أواخر الخمسينات من إعداد لإطار خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الأولى سعيت إلى رسم خريطة أولية لأوضاع مناطق الدولة المختلفة لتبين نواحى التقارب والتباعد فى مستوياتها المعيشية، وكذلك مدى توفر مستويات الأيدى العاملة من القمة إلى القاع ومدى اكتساب كل منها المهارات والخبرات التى تؤهلها لأداء ما تكلف به من أعمال تنفيذا للأنشطة المختلفة. ولم ألبث أن شعرت بحجم الفجوات القائمة فى التسلسل الرأسى بين المستوى الأعلى والمستويات الأدنى فى مختلف الأماكن ومجالات النشاط. فقررت أن أدرس كيفية تفاديها ضمانا لرسم منهج سليم للنشاط التخطيطى، إعدادا وتنفيذا.

وتوسعت فى نظرتى إلى مختلف أبعاد التنظيم المجتمعى بأنسجته المختلفة، وأعددت مقالا عنوانه: «الصف الثانى» عالجت فيه المشكلة، وعرضته على المرحوم محمود إبراهيم، رئيس شعبة النماذج التخطيطية، التى كنت منتدبا للعمل معه، من موقعى فى التدريس الجامعى. وأوضحت فيه أن هناك ظاهرة ملفتة للنظر فى كثير من النواحى. فعلى مستوى الريف والحضر نجد فروقا شاسعة بين ما يدرج ضمن كل منهما، تشكل عائقا أمام انسياب التماسك الاجتماعى، رغم أن كثيرين من أبناء الحضر يحتفظون كأفراد بروابط عائلية وثيقة بجذورهم الريفية، وقد يتواصلون معهم ويزورونهم من آن إلى آخر. وغالبا ما يجنحون إلى العودة إلى أساليب الحياة السائدة فى الريف خلال زياراتهم، ثم يعودون إلى قواعد الحياة فى الحضر عند العودة إلى محال إقامتهم. غير أن هذا ينشىء معضلة للمخطط الذى يريد النهوض بمستوى المعيشة فى البلاد بشكل عام، واعتماد أنشطة تكفل الارتقاء بأساليب الحياة ورفع المستوى الثقافى على نحو ينشط الحراك الاجتماعى ويعزز تماسك النسيج الاجتماعى، فتتقارب الرؤى فيما بين المصالح الإقليمية ومع الصالح العام.

***
وقبل أن أنتقل إلى النقاط الأخرى أتوقف قليلا عند ظاهرة التحضر. كان التعداد العام للسكان ينشر كثيرا من بياناته مفرقا بين الريف والحضر، اعتمادا على التصنيفات القائمة على التسميات الإدارية، ويفرد للقرى جداول خاصة تظهر مدى اختلاف مؤشرات الحياة فيها عنها فى المراكز والمدن. وأجرى أحد الباحثين دراسة طرحت معايير للتمييز بين القرى الصغيرة والكبيرة فى نتائج التعداد العام للسكان لعام 1957، واختار معيارا تعسفيا لما يصنف كقرية هو ألا يتجاوز عدد السكان 20 ألف نسمة. وكنت خلال فترة الدراسات العليا قد زرت مناطق ريفية فى كل من إنجلترا وفرنسا، ولمست الجمال الذى يتمتع به أهل الريف بالقياس بلندن وباريس والمدن الأخرى، مما جعلنى أبحث فى نواحى التقارب والتباعد بين أنماط الحياة فيها. إلى جانب ذلك اتضح لى من اطلاعى على الأدب البريطانى (قصة مدينتين وقصص أخرى) مدى الفارق الشاسع بين المدينة الواحدة مثل لندن على فترات متباعدة، وتوصلت إلى أن التحضر ليس حالة منفصلة تظل جامدة عبر الزمن، بل إنه ارتقاء متواصل يجعل منه طليعة تجذب وراءها باقى مناطق الدولة.

واقترحت أن ننظر إلى ما يسمى «درجة التحضر» degree of urbanization على غرار ما يعتبر فى التنمية أقطابا تجذب خلفها باقى أرجاء المجتمع. ولوضع مقياس لتلك الدرجة، نختار عددا من مؤشرات نمط الحياة فى مناطق واضحة التميز فى ارتقائها الحضرى، ونظيراتها فى القرى الأقل شأنا لنعطى كلا منها وزنا يستخلص مما يسميه الإحصائيون التحليل التمييزى discriminatory analysis. ووضعت صيغة خطية مبسطة لهذا التحليل المعقد بعض الشىء رياضيا، لاستخلاص قيم تلك الأوزان، مثل حجم الأسرة ودخل الفرد ومستوى المعيشة والمستوى العلمى لرب الأسرة، إلخ. وهكذا أصبح فى الإمكان قياس درجة تحضر كل منطقة فى الدولة ومتابعة تغيرها مع الزمن، ويعطينا هذا مرشدا لتقييم أثر تنفيذ خطة التنمية على تحقيق التقارب بينها، وتلافى اتساع التباعد فى مراحلها المتتالية. وقد طالبت الاستعانة بجغرافيين لكى يعاونوا فى تزويدنا بدراسات تضيف إلى دراسات الجدوى الاقتصادية لمشاريع التنمية ما يوضح انعكاساتها ومتطلباتها البيئية. واتضحت أهمية هذا البعد عندما بدأ العمل فى السد العالى والصناعات الثقيلة فى أسوان، فكلف المهندس عزت سلامة بإدارة برنامج للتطوير الاقتصادى والاجتماعى المتكامل للمنطقة.

***
أعود إلى الدراسة التى كان الموضوع السابق أحد مواضيعها، فأقول إن القضية الخطيرة الأخرى التى رصدتها كانت تتعلق بالقوى العاملة فى القطاع المنظم. فنجد أن كثيرا من الوحدات الإنتاجية يختار لها قيادات ذات خبرة عالية فى مجال نشاطها، وتضم عمالة قد تكون لها خبرات فى تخصصها، ولكن ينقصها رؤساء عمال foremen أكفاء يستطيعون ترجمة توجيهات القيادة العليا إلى واجبات تنفيذية للمستويات الأدنى، وتوفير ما يلزم لنهوض كل من الأفراد على خير وجه ومعالجة ما قد يصادفه العمل من طوارئ واقتراح برامج لتلافى تكرارها. والأخطر أن هذا البعد كان يظهر جليا فى كثير من دواوين الحكومة، التى أنشئت أصلا بمنظور روتينى بيروقراطى، وأزيد الآن أن المشكلة قد تكون أخطر إذا لم تتوفر المستويات العليا بالقدر الكافى.

وقد عانيت من هذه الظاهرة فى مراحل مختلفة من حياتى المهنية، عندما توليت أول وظيفة لى فى الجهاز الإدارى فى 1964 كوكيل للجهاز المركزى للمحاسبات رئيسا لإدارتى البحوث والعمليات، ومتابعة تنفيذ الخطة وتقييم الأداء، تضم الأولى أربع إدارات والثانية ستا. فرغم أن بعض الذين عينوا كرؤساء لتلك الإدارات بدرجة وكيل وزارة أو مدير عام كانت له خلفية متميزة فى مجال تخصصه، إلا أنه حاول أن يضيع الأهداف حيث جرى تحويل ديوان المحاسبة كمؤسسة رقابية مالية إلى جهاز لتعزيز التنمية، فزجوه فى تفاصيل كان يجب تركها إلى أجهزة أخرى. وتدخلت الاختيارات الشخصية لتدفع بعض من تنقصهم الخبرة والكفاءة، مثل صهر سكرتير عام مجلس الوزراء الذى حصل على دكتوراه فى تسعة شهور من تشيكوسلوفاكيا (وهى فترة علق عليها حسين الشافعى عند توليه رئاسة الجهاز ساخرا بأنها طبيعية !!) فاخترع معايير لتقييم الأداء فى قطاع الزراعة منها «درجة كفاءة الجو!!». ولم تكن قدرات الشافعى ذاته توازى قدرات مؤسسة زكريا محيى الدين الذى قاد قبل ذلك مؤسسات أخرى باقتدار، فتركه ليصبح رئيسا لمجلس الوزراء فحاول النهوض بكفاءات القطاعين الإدارى والإنتاجى بالمفهوم الذى قاد به الجهاز. ولعل هذه الإشارة تمهد لما لمسه محمود إبراهيم من ثنايا سطور المقال.

***
ودون إقلال من شأن أعضاء مجلس قيادة الثورة، فإن البون كان شاسعا بين قامة عبدالناصر العملاقة، وبين الآخرين من رفاقه ومن تولوا مناصب رفيعة كعلى صبرى الذى تحول مع الزمن إلى مركز قوة وظل نفوذه واضحا حتى بعد تولى زكريا رئاسة المجلس خلفا له. وظهر الأمر جليا عندما تولى السادات الرئاسة بعد وفاته. وكان تشخيصى لهذا الوضع أن «السد لا يحجز ماء أعلى منه». فقد كانت قامة عبدالناصر من العلو بحيث تتيح له أن يختار أقوى وأنسب الشخصيات المحيطة به، بينما أدى تدنى قامة السادات إلى درجة اختيار مبارك نائبا له، ولم يجد الأخير من هو أدنى منه فترك المنصب شاغرا. ويبدو أن محمود إبراهيم خشى أن يفسر المقال فى هذه الحدود مما يجلب على جهاز التخطيط متاعب تعوقه عن أداء مهامه التنموية، فآثر السلامة ورفض نشر المقال. وحسنا فعل لأن المقال كان يمكن أن يفسر على أنه محاولة لإيقاظ صراع 1954 حول الحياة النيابية، وهو صراع غير محمود العاقبة، لأن عودة تلك الحياة بعد فترة وجيزة من التخلص مما سببته الأحزاب السابقة من فساد كان يمكن أن يكون بمثابة ستار للقضاء على ثورة لم يكن القائمون بها يمثلون تشكيلا سياسيا قويا تسانده جماهير قادرة على القضاء على جذور الرجعية من إقطاع واحتكار؛ بل وكان يمكن أن تودى بحياة من قام بها وساندها.

ترى هل ابتعدنا اليوم عن ذلك الوضع بما فيه الكفاية؟ أرجو ذلك!!

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات