غمامة تخيم فوق رءوسنا - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غمامة تخيم فوق رءوسنا

نشر فى : الأربعاء 21 سبتمبر 2016 - 10:40 م | آخر تحديث : الأربعاء 21 سبتمبر 2016 - 10:40 م
سمعت صديقة تصف الأجواء فى مؤتمر انعقد قبل أيام فى البرازيل لمناقشة تطورات القضايا المتعلقة بحقوق المرأة بقولها «كأن غمامة خيمت فوق اجتماعاتنا». استغربت أن يتصف مؤتمر للنساء بهذه الصفة ناهيك عن أن المرأة يحق لها أن تحتفل بعدد كبير من إنجازات حققتها بجهود هائلة وتضحيات كبيرة على امتداد العقود الأخيرة. بل إن المتابع من ذوى التجربة الطويلة يستطيع بكل الثقة أن يقرر أن من بين جميع قطاعات الحقوق الإنسانية كان قطاع حقوق المرأة ومسيرة تمكينها القطاع الذى حقق النجاح الأعظم على امتداد أكثر من مائة عام. حققت المرأة ما لم يحقق قطاع الحق فى حرية التعبير أو قطاع الحق فى العيش الكريم فى مجتمع نظيف خال من الفساد أو قطاع الحق فى عدالة ناجزة ومنصفة أو قطاع الحق فى المشاركة فى صنع المصير. تصورت أن تذهب النساء إلى مؤتمرهن فى البرازيل تصاحبهن سحابة خير وبهجة وليس، كما سمعت، غمامة لم تبارح.

***
جلست، قبل نحو الأسبوع، أمام التليفزيون متعمدا اللحاق بنشرة أخبار أجنبية تنقل بعض أعمال مؤتمر قمة للدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى فى مدينة براتسلافا. شاهدت جانبا من المؤتمر واستمعت إلى عدد لا بأس به من قادة أوروبا وجاءت فرصة سمحت بأن أتوقف لحظة أطول من المعتاد أمام صور متلاحقة للقادة منفردين فى وضع شرود أو فى غفلة عن المصور المتربص دائما لهذه الفرص. لاحظت، بين كثير مما لاحظت، أن الوجوم كان الحالة الغالبة على وجوه المؤتمرين. تصورت فى البداية أن يكون الإرهاق السبب ولكن صححت نفسى بسرعة متذكرا أن الذين أرهقتهم اجتماعات الأسابيع الأخيرة كانوا الأقلية، بينهم أنجيلا ميركل وفرنسوا أولاند وعدد من كبار موظفى المفوضية الأوروبية. لم أتردد أمام غرابة مشهد الكآبة فى السعى وراء رأى آخر من زميل أوروبى يمارس نفس الهواية. جاءت إجابته تؤكد انطباعى بل جعلته نسخة طبق الأصل من انطباع اعتقد زميلى أنه الغالب بين المراقبين والحضور كذلك. أفهم وأقدر أن الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى كان له وقع الكارثة على قادة الاتحاد، وبخاصة على القادة الأعظم، ولكنى لم أعرف أن الكارثة ظلت تتفاقم مع مرور الوقت، وأن ما فعلته فى المكون النفسى للاتحاد والدول الأعضاء تجاوز كل التوقعات المتشائمة التى فرضت نفسها على القارة فى أعقاب الإعلان عن نتيجة الاستفتاء.

الآن أعرف أن كارثة انسحاب بريطانيا ليست وحدها المسئولة عن هذه الغمامة التى سادت فى أجواء براتسلافا، فالغمامة نفسها كانت تخيم فوق رأس السيد «يونكرز» رئيس الاتحاد الأوروبى أثناء وصوله لإلقاء خطابه الشهير أمام برلمان أوروبا، الخطاب الذى اعترف فيه صاحبه وبكل الصراحة الممكنة بالحال المتردية التى انحدرت إليها أوروبا، وربما الغرب بأسره. بمعنى آخر لم تكن كارثة الخروج البريطانى سوى أحد مظاهر التردى وليست السبب فيه.

***
أزعم أننى أحد القليلين من المتابعين للشئون العربية الذين أتيحت لهم فرص لم تتح للكثيرين للاقتراب من عمليات صنع القرار فى مؤسسات العمل العربى المشترك. حضرت بحكم عملى مؤتمرات قمة عربية لم يكن أقلها شأنا مؤتمر فاس الذى شهد استخدام الفيتو لإحباط أول محاولة لصياغة مبادرة عربية لتسوية الصراع العربى الإسرائيلى. للرد على هذا الفيتو السورى انعقدت قمة عربية أخرى فى العام التالى بعد تدخلات غربية وحروب إسرائيلية أقرت المبادرة. قبلهما وبعدهما حضرت قمما أخرى فى الصومال وتونس والدار البيضاء وعشرات المؤتمرات العربية. استفدت كثيرا. هناك فى تلك القاعات الفاخرة كانوا يستخدمون الأحدث فى فنون وتكنولوجيا التكتم والسرية، وهناك على رصيف الشارع خارج مبنى المؤتمر كنا نستمع من مراسلين أجانب إلى نصوص ما نطق به القادة العرب داخل القاعات المغلقة. تعلمنا أن التزام السرية كالتزام خرق السرية طبيعة ثانية للدبلوماسية الجماعية العربية.

طبيعة أخرى للدبلوماسية العربية اكتشفتها خلال سنوات متابعتى للعمل العربى المشترك، هى تلك النظرة المتدنية التى ينظر بها معظم القادة العرب إلى مؤتمراتهم. يكاد الشعور بـ«القرف» يلازم وجوههم منذ اللحظة التى تطأ فيها أقدامهم أرض الدولة مقر انعقاد المؤتمر حتى لحظة مغادرتهم لها. كانت إحدى هواياتى المفضلة متابعة المدة التى يقضيها كل مسئول عربى فى قاعة الاجتماع وفى المؤتمر بصفة عامة. لم نظلمهم حين اتهمنا بعضهم بأنهم يعطون الأوامر لأطقم طائراتهم لإبقاء محركاتها دائرة. أكثرهم يأتون إلى مؤتمراتهم العربية على مضض ويغادرونها على عجل. أكثرهم يجلسون على مقاعدهم متأففين وفى الغالب حسب رأى وزير خارجية سابق يجلسون مهمومين.

للتأكد من صدق انطباعاتى عن الأجواء التى تخيم على المؤتمرات الدولية التى انعقدت خلال الأسابيع الاخيرة اتصلت بزملاء قدامى ومساعدين أعزاء ما زالوا يحضرون المؤتمرات العربية بحكم وظائفهم. لم أطلب معلومات فالمعلومات صارت لها مصادر أكثر عددا وتنوعا وصدقية من أى وقت مضى، ولكنى سعيت وراء انطباعات من خلال استفسار محدد أو مجموعة استفسارات محددة ولكن مترابطة. سألت إن كان يخيم على أجواء المؤتمر غمامة أقل كثافة من غمائم تعودنا عليها قبل سنوات، هل حلت بهجة أو بعض المسرة محل كآبة، هل تسربت من خلال الخطب المعدة سلفا والكلمات المتبادلة فى النقاش نبرات تكشف عن تفاؤل أو نوايا صادقة فى التغيير. سألت إن كانت مدة بقاء المسئول العربى الكبير فى المؤتمر طالت أم قصرت عن المألوف. سألت إن كانت تغيرت نظرة المسئول أو المندوب العربى إلى «الموظف الدولى العربى»، سألت عن مستوى النقاش وهل يكشف عن مجهود غير عادى فى الإعداد والتخطيط أم عن لا مبالاة متفاقمة وإهمال متزايد. انتظرت أن تساعدنى الإجابات فى تكوين رأى عن الحال الراهنة للدبلوماسية العربية باعتبارها مؤشرا مهما لحال العالم العربى فى اللحظة التى نعيشها، أضيفه إلى الرأى المتكون فعلا عن الحال الراهنة للدبلوماسية الدولية بفضل ما ينشر من صور هزلية عن اجتماعات الروس والأمريكيين فى جنيف وغيرها وصور خشبية للأمين العام للمتحدة وصور مثيرة للجدل لدبلوماسيين يتبادلون السب العلنى فى عرض مواقف بلادهم.

***
العبارة التى استعرتها من صديقتى العائدة من مؤتمر «شعبى» انعقد أخيرا فى البرازيل أكدت انطباعات تشكلت عندى نتيجة متابعتى لسلوكيات المشاركين فى مؤتمرات دولية واقليمية وفى ندوات وحلقات نقاش تنوعت قضاياها وجنسيات أعضائها وأهواؤهم وأعمارهم. هناك غمامة تخيم فوق رءوس الحكام وغمامة أخرى، أو لعلها الغمامة نفسها، تخيم فوق رءوس الشعوب. لا أقصد بهذا التعميم، وإن كنت لا أنكر تعمدى اللجوء إليه، لا أقصد الترويج لشعور تفاؤل أو تشاؤم، ولكنى أريد أن أنبه إلى أن البشرية، ونحن جزء منها، تمر فى «انعراجة» شديدة فى مسيرتها نحو التقدم. هناك اعتقاد حقيقى ومتزايد عمقا فى أننا كبشر صرنا نفقد من أعز ما نملك أو نحلم ما هو أكثر كثيرا وأهم من كثير مما حققنا ونحقق من انجازات.

***
خاب أمل شعوب كثيرة ولا شك عندى فى أنها سوف تجدد الأمل. المثير والمعقد فعلا هو خيبة الأمل التى نراها على وجوه رجال حكم فى عديد الدول يكتشفون الآن أن لا حلول سهلة تنتظرهم. يدركون، بل نراهم يجاهرون بأن رهاناتهم على الغرب وعلى شعوبهم سقطت. تتبقى مغرية البدائل التى يطرحها المرشح ترامب ومن يسير على نهجه فى روسيا والصين والفلبين وتركيا وإيران والأحزاب الجديدة الصاعدة وبقوة فى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا واسبانيا والنمسا. هكذا تؤذن الغمامة بانتشار أوسع.

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي