من التوريث إلى تجميد الاستيطان - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من التوريث إلى تجميد الاستيطان

نشر فى : الأربعاء 21 أكتوبر 2009 - 9:03 ص | آخر تحديث : الأربعاء 21 أكتوبر 2009 - 9:03 ص

 قضيتان تتصدران العناوين فى وسائط الإعلام، وتغريان الكتاب بالاستغراق فيهما، وغالبا ما ينتهون إلى الرفض إن لم يكن الاستهجان. ولا أقصد بالجمع بينهما أن هناك أوجه شبه بينهما بمعنى أن التوريث ينطوى على قيام أسرة بتجميد استيطانها فى ساحة الرئاسة دون اعتبار لإرادة المرءوسين، أو أن الاستيطان يجمد به دخيل لا خلاق له ولا ضمير وجوده فى أرض عاش عليها شعب آلاف السنين وهو بعد حى يرزق، ليرث الأرض ومن عليها. ليس هذا التشابه هو الذى يعنينى.. وإنما ما أقصده هو عملية تناول الأمرين بالصورة التى تحشد لها الأقلام وتشحذ الهمم.

يدور الحديث فى قضية التوريث حول مسألة اختيار الشخص الذى يشغل موقع الرئاسة بعد انتهاء مدة رئاسة الرئيس الحالى بطريقة سلمية. وينطوى هذا ضمنا على التسليم بعدة أمور، أولها اعتبار بقاء النظام السائد أيا كانت جدارته بالبقاء طالما شاغل الرئاسة فيه على قيد الحياة، إلا إذا تنحى عنه على نحو أو آخر.

الثانى أن المشكلة تنحصر فى اختيار من يخلفه والامتعاض من أن يحصر الاختيار فى شخص بعينه، وأن هذا الشخص لا تتوقع الغالبية منه خيرا فى إحداث تغيير فى نظام استأثرت قلة بمغانمه على حساب الأغلبية الغارقة فى الهموم.. الصلبة والسائلة، لأنه لا يكتفى بموقعه كأحد أركان هذا النظام، بل يحاول أن يكتسب صفة القائد لسياساته وتنظيماته حتى تصبح الرئاسة مجرد تحصيل حاصل. الثالث أن الحالمين بالتنافس على سدة الرئاسة يشعرون بقدر من الإحباط، فبدلا من أن يقدموا شهادات اعتمادهم يتلمسون السبل لإزالة المؤهل بالوراثة عن الطريق، وهو أمر لا يعنى فى كثير أو قليل الغالبية التى تصطف على جانبى الطريق إلى الرئاسة للمشاهدة دون تصفيق أو هتاف، أو حتى مجرد تحية.

إن هذا الحوار المحموم ألهى الجميع عن المشكلة الحقيقية الجديرة باستنهاض الشعب وإشراكه فى عملية من صميم حقوقه، وهى اختيار من يفوضه بالحكم، ليس بآليات دستورية يقهقه السادة الذين اصطنعوها اغتباطا بنجاحهم فى تدبيج مواد فحواها الالتفاف على الحقوق، وإنما من خلال حوار بناء يرسم معالم الطريق إلى مستقبل أفضل. لنفرض أن جمال مبارك لم يكتف بأن يعلن عدم رغبته فى الترشح للرئاسة، بل وقرر اعتزال العمل السياسى فى حزب الرئاسة أو غيره. هل تهدأ الأقلام ويتنفس الشعب الصعداء؟ ستظل هناك المشكلة الحقيقية هى ماذا يكون عليه النظام المصرى، وكيف يعيد إلى مصر ما فقدته من حريتها ومكانتها خلال العقود الأربعة الأخيرة؟ هل يستطيع حزب الرئيس أن يرشح من هو جدير بتحقيق النهضة التى يتوق إليها المصريون؟ وهل ستترك الأجهزة التى أتقنت فنون الاستبداد فرصة لأن تطرح قوى أخرى أسماء مرشحين قادرين على التعبير عن رؤى الجماهير، وأن تتيح لها إمكانية النجاح إن تمكنت من الاستحواذ على أصواتها؟

أعتقد أن بالون التوريث قصد به ثلاثة أمور:

الأول: أن النظام القائم على تسلط حزب الحكم عاجز عن أن يفرز بديلا قادرا على استمراره، لأن الحزب استند إلى الرئيس.. فلا بد من رئيس له حتى يبقى، ولا توجد مثل هذه الشخصية أو الشخصيات فى صفوفه التى تستطيع امتلاك قوة جماعة المنتفعين الذين ركبوا أتوبيس الحكم ولا يملكون قيادته.

الثانى: أنه إذا فتح باب الترشيح فسوف تنكشف حقيقة الصراعات القائمة بين شلل المنتفعين، بخسارة للجميع. ويبقى الوريث أسير الحد الأدنى من التوافق الذى أوصله إلى الحكم، دون أن يملك فرصة تماثل تلك التى استغلها السادات ليقوم بانقلاب مايو 1971 مستندا إلى ظروف المعركة وإلى مشاركته السابقة فى المجموعة التى قامت بالثورة وفتحه بصيص أمل لأعداء الثورة كى يدعموا التحولات التى كان من الواضح أنه بسبيلها.

يكفى أنه عندما هيأ الساحة للجماعات الرافعة لراية الإسلام، كانت نهايته على يديها. الأمر الثالث والجوهرى هو: توسيع ساحة ملهاة التوريث استبعادا لأى حوار جاد يفضى إلى اجتثاث الفساد فى النظام من جذوره.

المشكلة أن الذين يطرحون الإسلام بديلا للنظام يوظفون الدين أسوأ توظيف، فكانت النتيجة هى تعميق الهوة بين المسلمين والأقباط، ثم بين السنة والشيعة، دون طرح بديل تلتف حوله جميع الملل.

فإذا انتقلنا إلى عبارة «تجميد الاستيطان» حارت منا الأذهان. إن هذه العبارة تعنى أمرين يؤكدان أن البلاهة لم تعد قاصرة على شعب بعينه، بل امتدت إلى الأمة العربية بأسرها.

الأول أن تجميد الاستيطان يعنى قبول مفهوم الاستيطان، وهو ما يلغى القضية الفلسطينية من أساسها.

الثانى أن التجميد يمثل خطوة إذا ما أقدم عليها الكيان الصهيونى يطرب العرب بأن أوباما أوفى بوعده فى خطابه القاهرى، وهذا أقصى المراد من رب العباد. وبغض النظر عن كون الصهاينة ضربوا بهذا التجميد عرض الحائط لأن هذا كان أمرا محسوما سلفا عندما أعيد إخراج مسرحية المفاوضات بين العرب وإسرائيل، فإن السؤال الذى يطرح نفسه هو: ما موقع الاستيطان على خريطة المفاوضات؟

إن إسرائيل لم تكن تلعب لعبة الاستيطان على سبيل قتل الوقت والتسلية إلى أن يأتى وقت الجلوس على المائدة. العبارة التى تتخذ ذريعة للتمادى فى الاستيطان هى توفير متطلبات إسكان «الزيادة الطبيعية» فى عدد السكان. ثم تملأ الدنيا ضجيجا وتتهم دولا من حرمانها يهودها من الهجرة إليها.. فهل الهجرة زيادة طبيعية؟ ولماذا لا تقتدى بالدول المتقدمة التى يشكو بعضها من تناقص السكان (رغم إطالة العمر) فتريح وتستريح؟ ولماذا تبنى مستوطناتها فى شكل شاليهات تمتد أفقيا، ولا يمن عليها الإخوة فى دبى بعلمهم الغزير الذى أوصلهم إلى بناء أبراج تناطح السماوات بعد أن تجاوزت السحاب، دون زيادة طبيعية؟

إن العرب بقبولهم مبدأ تجميد الاستيطان قد سلموا بما هو قائم، فهو خارج المساومات على رقعة الأرض التى تبقت بيد الفلسطينيين. وحتى لو تنازلت إسرائيل وجعلتها موضع تفاوض، فإنها ــ بحكم غريزة اليهود الأساسية وهى المساومة ــ سوف تدرجها ضمن ما تطلب ثمنا باهظا للتنازل عنه. فماذا بقى بيد العرب ليقدموه ثمنا لما سلبته؟

وماذا عن الزيادة الطبيعية للعرب إذا كان الأصل قد حكم عليه بالتشرد وتقرر حرمانه من حق العودة إلى موطنه؟ إن المسألة هى أساسا اقتلاع المستوطنات من جذورها، إن لم يكن لشىء، فلأنها تغيير فى طبيعة الأرض التى اغتصبتها عصابات صهيونية لتقيم عليها كيانا تسميه دولة لا تعترف بمسئوليتها عن الحفاظ على الأرض المحتلة إلى أن تعاد إلى أصحابها. والأغرب من ذلك أن يطالب بعض العرب الذين يريدون أن يضعوا أنفسهم على خريطة هم غائبون عنها بتقديم عربون صداقة لاسترضاء إسرائيل، فيتطوعون بمشاركتها فى تبديد ما لا يملكونه.

إن ما يجرى على التوريث والاستيطان هو نموذج لمسلك حكم علينا بالتبعية الفكرية لمن هم أدنى منا فكرا وأحط منا خلقا. وقد آن الأوان لأن نسمى الأشياء بمسمياتها، وننظر إلى الأصول لا الفروع.. وينطبق هذا على الإخوة الفلسطينيين الذين أضاعوا الكثير فى متاهات تكاد تقضى على قضيتهم قضاء مبرما.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات