قطعان البشر - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 3:16 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قطعان البشر

نشر فى : السبت 21 ديسمبر 2013 - 9:05 ص | آخر تحديث : السبت 21 ديسمبر 2013 - 9:05 ص

أمر غريب يحدث هذه الأيام. أشخاص عاشوا حيواتهم يناضلون من أجل تحقيق العدالة إذا بهم يديرون وجوههم فجأة عنها. أخرون لم يكن مِن هَمٍّ لديهم سوى صون حقوق وكرامة البشر؛ فإذا هم يؤيدون تجاوزات السلطة وامتهانها لطوائف بعينها من الناس، وفريق ثالث كانت قضيته الحرية؛ إذا به هو الآخر ينخرط فى الدفاع عن إجراءات وقوانين قمعية. الذى جرى لأولئك وهؤلاء سؤال كبير.

•••

مِن الناسِ مَن يَتَعَرَّض إلى وحشية السلطة فيختار الطريق الأسلم والأكثر أمنا وإثابة، ومنهم مَن يصيبه يأسٌ وإحباطٌ يدفعانه إلى سلوك نقيض. هناك أيضا مَن يعيد تشكيل مواقفه تبعا لمعطيات تَجِدُّ على الساحة فيصيغ مبادئه وأفكاره بما يتماشى مع السائد، وبما لا يستعدى المجتمع عليه. يعرف علماء النفس الظاهرة الأخيرة جيدا، ويفسرونها بما للمجتمع من تأثير مرعب وعميق على الأفراد، وتوضح دراسات كثيرة كيف يقهر المجتمع الفرد بحيث يصبح كما العجين؛ لينا طيعا، وقابلا للفرد والمد والتكوير، كيف يتم تعديله بحيث يغدو نموذجا مثاليا لا يخرج أبدا عن الإطار المرسوم للمجموع، ولقد أشار بعض الباحثين إلى محاولتهم نفى هذا الوصف المخيف: «قطعان الأغنام» عن البشر، لكنهم أكدوا فيما بعد أنهم فشلوا فى تحقيق الهدف، فقد ثبت أن عملية «التطويع الذاتى» التى يقوم بها الأشخاص تحت ضغوط المجتمع هائلة الحجم والأثر.

يتخلى بعض الناس عن أفكارهم تحت وطأة تلك القوة الناعمة، وحين يعلنون استسلامهم لسطوة المجتمع وخضوعهم لعملية التطويع التى يفرضها عليهم ويتحكم فيها، فإنهم يكونون مدفوعين فى المقام الأول برغبة الحصول على رضائه ومباركته، وكذلك بالرغبة فى الاحتفاظ بأكبر قدر من الانسجام مع الآخرين، وفى سبيل هذا فإنهم قد يأتون بسلوكيات معاكسة لما يؤمنون به، ويمتنعون عن أى فعل لا يحظى بالقبول.

•••

لا تخلو أسلحة المجتمع وأدواته من شر وخبث، يوجهها إلى صدور الخارجين عليه، وربما يكون أسوأها تلك الاتهامات العشوائية التى لا تقوم أغلب الأحيان على دليل، اتهامات تلتصق بالأفراد الرافضين، الشاردين عن القطيع، المتمسكين بالبقاء خارج الإطار المفروض. ترى كم من شخص كان منذ أشهر أو أعوام قليلة رمزا للثورة فصار عميلا، وكم من شخص حظى باحترام واسع النطاق قد انتقل فى لحظات قصيرة إلى خانة الخونة الأفاقين، كم من شخص ضُرِبَت بحكمته المُثُل، ثم صار فى أقل الأوصاف عداوة وتحقيرا «غبيا»، «أحمق»، أو «غير مسئول»؟ حطم المجتمع هؤلاء الذين رفضوا تطويع أنفسهم وسلوكهم وأبعدهم عن جنته، ولا يزال يستبعد كل يوم آخرين. يصبح القابضون على قناعاتهم فى هذا السياق باعثين على الدهشة والتعجب، بل وربما ينالون بعضا من الشفقة والرثاء، أما الذين يسبحون مع الموجة العملاقة، ويصيرون جزءا منها، لهم لونها وانحناءاتها، فإنهم يبدون للناظرين من بعيد أصحاء معافين، متسقين مع ما حولهم، لا يثيرون دهشة ولا استغرابا.

•••

نعرف أن النظام قد يعتقل ويمارس العنف ويعذب المواطنين ليجبرهم على طاعته، وقد نالت وحشة السجون وقسوة التعذيب من أشخاص فجعلتهم يكفرون بما سبق واعتقدوا فيه، بل واضطرت بعضهم إلى الجهر بما لا يبطن، لكن المجتمع لا يعتقل ولا يعذب بالمعنى التقليدى لمصطلح التعذيب. يُقَوِّمُ المجتمع أفراده دون أن يمارس تجاههم أى عنف جسدى، يُلقى بثقله المعنوى ويستخدم كامل عدته وعتاده، فيدفع أشخاصا إلى نبذ أفكارهم التى طالما آمنوا بها، بينما يجبر آخرين على التخفى أو الابتعاد والانعزال. يشير كل شخص فى نهاية الأمر إلى الآخرين، متسائلا عما دفعهم إلى التَغَيُّرِ، ويتجاهل صاحب السؤال أنه يمثل بنفسه جزءا من المجتمع صاحب القوة الهائلة القادرة على تغيير الآخرين.

•••

ترى أيهما الأخطر: هل هو النظام الذى يشيد المعتقلات ليقنع فيها المواطنين بخطأ تصورهم عنه، أم المجتمع الذى يجبر أفراده على تغيير قناعاتهم دون حاجة إلى معتقلات ومعسكرات تعذيب؟ ترى أيهما الأكثر توحشا وتأثيرا: قوة النظام أم قوة المجتمع.. قدرة النظام أم قدرة المجتمع.. سلطة النظام أم سطوة المجتمع؟

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات