ليبراليون من منازلهم - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ليبراليون من منازلهم

نشر فى : الأحد 22 يناير 2012 - 8:55 ص | آخر تحديث : الأحد 22 يناير 2012 - 8:55 ص

يبدو أن قدر الليبرالية فى مصر ألا تعانى فقط من جهل خصومها بها، بل أيضا من جهل كثيرين ممن يتشدقون بها ويدعون الانتساب إليها. فإذا كان الخصوم يرادفون ظلما بين الليبرالية ومعاداة الدين ويتهمون الليبراليين دون وجه حق بالعمل على إخراج الدين من الحياة الخاصة والعامة، فإن متشدقين بالدفاع عن الحريات يرفضون الرأى الآخر ويقصون المختلفين معهم بديكتاتورية وبعنف لفظى وبحقائق مجتزئة ويبتلون الليبرالية من ثم بسلبيات تفض الناس من حولها ولا تجمعهم.

 

إلا أن أخطر ما فى ممارسى الديكتاتورية باسم الليبرالية، والكثير منهم يسكن عالم التويتر والفيسبوك، هو محدودية معرفتهم بالفكرة الليبرالية التى لا يدركون منها ولا من المضامين القانونية والسياسية المرتبطة بتطبيقاتها فى المجتمعات المعاصرة إلا القشور.

 

البعض من محدودى المعرفة هؤلاء أثار ضجيجا لم يهدأ إلى اليوم بعد تأييدى (فى برنامج على قناة الناس) لحظر المواقع الإباحية على الانترنت واتهمنى بالتخلى عن الليبرالية وقبول تقييد حريات الأفراد حماية لما سميته الصالح العام صنفنى فى زمرة المتلونين وممالئى التيارات الدينية. وتمادى فريق فى التسفيه والتسطيح بالدفع بأن من يقبل اليوم بحظر المواقع الإباحية سيطالب الغد بإجبار المواطنين على الصلاة وتنظيف الأسنان وممارسة الرياضة حماية أيضا للصالح العام. فريق آخر استدعى، دون معرفة، خبرة المجتمعات الغربية المعاصرة زاعما أنها لا تحظر مواقع على الإطلاق وأن أولى قواعد الليبرالية هى الامتناع عن فرض قيود على حريات الأفراد.

 

لهؤلاء وللرأى العام أقول إن جوهر الفكرة الليبرالية هو تعظيم الحريات الشخصية والمدنية للفرد وتمكينه من إدارة حياته باستقلالية ودون وصاية. أما فى السياق المجتمعى بمجاليه القانونى والسياسى فإن جوهر الفكرة الليبرالية يتطور ليصبح ضمان الحرية والمساواة والعدالة والأمن لكل الأفراد ومن ثم تحقيق الصالح العام. ضرورة المزج بين تعظيم الحريات الفردية وتحقيق الصالح العام تضع المجتمعات الليبرالية دوما فى مواجهة تحديات ترتبط بثنائية السماح والمنع وترتب استجابات متنوعة (ومتغيرة) فى المجالين القانونى والسياسى تفرض بعض القيود والضوابط على حريات الفرد وسلوكه الشخصى.

 

يحظر العدد الأكبر من المجتمعات المعاصرة قانونى التعددية الزوجية (زوجات وأزواج) ويقيد بذلك الحرية الفردية والسلوك الشخصى باسم الصالح العام، تماما كما تقيد حرية الفرد بإجباره على التعلم (التعليم الأساسى) ودفع ضرائب للخزانة العامة وأداء الخدمة العسكرية أو المدنية والحيلولة بينه وبين ممارسة العنف. وفى المجال السياسى، تجرم مجتمعات ليبرالية كثيرة الأفكار العنصرية وخطابات الكراهية والعنف وتترجم هذا التجريم لحظر للوسائط الناقلة لمثل هذه الأفكار والخطابات من صحف ومطبوعات وقنوات تليفزيونية ومواقع إلكترونية.

 

أما المواقع الإباحية على الانترنت، والتى هاج وماج المتشدقون بالدفاع عن الحرية ما أن أيدت حظرها فى مصر، فتخضعها الكثير من المجتمعات الليبرالية لقيود مختلفة تصل للحظر فى حالات عدة. على مستوى الاتحاد الأوروبى، تعد لجنة «حريات المواطنين والعدالة والشئون الداخلية» بالبرلمان الأوروبى منذ 2009 تشريعا يلزم جميع دول الاتحاد ال 27 بحظر أو حذف المواقع الإباحية التى تستغل النساء القصر أو الأطفال وتتاجر بأجسادهم. دون المستوى الأوروبى العام وبالنظر للتشريعات الراهنة، تشترك كل من الدنمارك والسويد والنرويج وفنلندا وإيطاليا وسويسرا بموافقة برلماناتها فى مصفاة إلكترونية (child sexual abuse anti distribution filter) تهدف لمواجهة الإستغلال الجنسى للنساء القصر والأطفال بحظر المواقع الإلكترونية التى تروج لها. كذلك تعطى القوانين البريطانية شرعية لمنع نفس المواقع من خلال مصفاة إلكترونية أخرى (content filer system clean feed). وفى ألمانيا، مرر البرلمان فى 2009 تشريعا يحظر المواقع هذه بعد مبادرات عديدة من جمعيات حماية النساء والأطفال ثم استبدل التشريع بآخر فى 2011 يقضى بحذف المواقع وليس مجرد حظرها.

 

غير صحيح إذا إن المجتمعات الليبرالية لا تفرض بعض القيود والضوابط على حريات الفرد، ومن العبث مرادفة تأييد حظر مواقع إباحية تتاجر بأجساد النساء القصر والأطفال حماية للفئتين وضمانا للصالح المجتمعى العام بالتخلى عن الليبرالية والتنازل عن الدفاع عن الحرية. الأجدر بطائفة الليبراليين من منازلهم، التى ابتلينا بها فى مصر من بين كوارث أخرى، استثمار بعض الوقت فى القراءة حول التنزيل القانونى والسياسى للفكرة الليبرالية عساهم يدركون منها ما يتجاوز القشور.

 

إلا أن حديث القيود والضوابط، والذى لم أكن لأتطرق إليه لولا الضحالة والإسفاف البالغين لليبراليين من منازلهم، ينبغى ألا يلهينا عن أن المطلوب فى مصر المتطلعة اليوم للديمقراطية هو صياغة وتنفيذ أجندة تشريعية ليبرالية تضمن حقوق الإنسان وتعظم الحريات الشخصية والمدنية بعد عقود القمع والاستبداد. أجندة تشريعية تعيد النظر فى القوانين المعمول بها فى مجالات الطفولة والأمومة والأسرة وحقوق المرأة وضمانات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (من المسكن الآمن والتغذية الجيدة إلى التعليم والرعاية الصحية والمعاشات) والسياسية للمواطن، وكذلك تلك المنظمة للحريات الأساسية (حرية العقيدة وحرية التعبير عن الرأى وحرية البحث العلمى وحرية الفكر والفن والإبداع) والأصل بها جميعا الإطلاق وانتفاء القيود. بالقطع ليس لحظر مواقع إلكترونية (وما كان حديثى عن الأمر إلا فى سياق رد على سؤال لمحاور لم أرغب فى التهرب منه) أن يشكل أولوية لبرلمان ثورة أرادت الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بل الأجدر هو التركيز على الحقوق والحريات التى نحتاج للتأسيس لها تشريعيا وسياسيا.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات