نقص حنان؟ - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:51 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نقص حنان؟

نشر فى : الثلاثاء 22 يناير 2019 - 11:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 22 يناير 2019 - 11:40 م

انشغلنا عن شاشة التليفزيون بالحديث عن أمور صغيرة وإن مسلية حتى تدخل أحدنا داعيا إيانا الانتباه إلى الشاشة. راح يعتذر ويبرر مقاطعته بأنه شاهد على التليفزيون الذى تركناه صامتا ما أثار عند زميلنا قلقا وغضبا وانزعاجا ولهفا، مشاعر شتى تسببت فيها صور تشابهت فيها الأحداث واختلفت الوجوه. بشر يركضون وراء قنابل غاز مشتعلة لالتقاطها وإعادتها إلى من أرسلوها، وبشر يحملون لافتات تسجل مطالب وتفضح ممارسات وتكشف تقصيرا وتوجه إنذارات وتعمم اتهامات وتذكر بوعود وحقوق. وبشر يسقطون ومن جراحهم يقطر الدم وبشر يتناوبون حمل الجرحى إلى عربات إسعاف تقف عند مداخل طرق فرعية. البشر فى صور يختلفون عن البشر فى صور أخرى. تراهم فى صور سمر البشرة الرجال منهم فى ملابس بيضاء ناصعة والنساء فى ألوان زاهية وقد أخفين الشعر ثم تراهم فى الخبر التالى وقد أبيضت وجوههم وانسدل شعرهم رجالا ونساء وارتدوا جميعا فوق ملابسهم سترات صفراء. رأيناهم، أى البشر، فى نبأ ثالث يهرولون، أو لعلهم يرقصون غضبا وصراخا أو سعداء بما يفعلون، هؤلاء بشر أشد سمرة وأصغر عمرا من كل البشر الذين رأينا صورا لهم على امتداد نشرة إخبارية فى قناة غربية تبث أخبارها باستفاضة. قال زميلنا الذى سبقنا إلى مشاهدة نشرات سابقة إنه أحصى ما لا يقل عن سبعة تقارير فى كل نشرة تصور بشرا غاضبين والشرطة تطاردهم.
***
أقنعنا بضرورة الانضمام إليه. وبالفعل حصلنا على نصيبنا من المشاهدة وفى طياتها مادة مثيرة للحوار. ألقينا وراء ظهورنا بالأمور الصغيرة التى قضينا الدقائق الأولى من أمسيتنا نلتهى بها ونتسلى وانتقلنا من المشاهدة متحمسين إلى مقاعدنا على مائدة الحوار لنناقش ما اجتمعنا على أهميته وتفرقنا على تعريفه. أنحن بصدد غضب عارم كظاهرة عالمية، أم هو قلق كاسح لم نشهد له مثيلا، أهو تدفق أحداث بوحى أحداث الربيع العربى أم هو الربيع نفسه يتعولم، أم بحكم قراءتنا للتاريخ نحن نعيش حالة بدايات ثورة عابرة للحدود، ثورة البشر بعد أن تردت أحوالهم إلى ما تحت المحتمل وقبل أن يصبح وجودهم فى عصر الذكاء الصناعى غير مفيد وغير لازم وغير ضرورى؟.
***
قال أحدنا، الغريب فى الأمر يا أصدقائى هو أن هذه البشرية الغاضبة والمستاءة من أوضاعها هى نفسها التى حققت معجزة إخراج مئات الملايين من الصينيين والهنود من دائرة الفقر المدقع. الغريب أيضا هو أن معظم مظاهر الغضب أو لعله القلق رأيناها فى دول الغرب. لا شك أن الأزمة الاقتصادية العالمية التى ضربت دول الغرب أولا خلفت أزمات ثقة فى جميع المجالات. نذكر كيف اجتمعت التهديدات الإرهابية مع الهجرة غير الشرعية مع تراجع نسب النمو مع مشكلات وتعقيدات استيعاب الاتحاد الأوروبى لدول شرق ووسط أوروبا مع إغراق الصين لأسواق الغرب بسلع زهيدة الثمن.
قال آخر: أتصور أننا لو أخذنا بهذا النهج فى الجهد الذى نبذله لفهم حالة القلق السائدة بين مختلف البشر فلن نصل إلى ما نريد. أقترح أن نركز جهدنا على الإنسان الفرد. هذا الإنسان الذى بلغ مستواه المادى حدا لم يحلم ببلوغه أجداده، هو نفسه الإنسان الذى لا يفتأ يشكو. إذا كان غنيا فشكواه مستمرة من تعقيدات الاستثمار وقوانين العمل وإذا كان فقيرا فشكواه لا تتوقف من الأسعار وضيق ذات اليد وندرة فرص العمل وإذا كان من متوسطى الدخل فشكواه من القيود على الحريات ومن كل شىء آخر، شكوى لا تهدأ.
***
قال ثالث: «ولكن هذا هو حال الإنسان الفرد فى كل عصر. هذا الفرد كان يشكو ولكنه لم يكن قلقا كإنسان اليوم. إنسان اليوم والقلق لا يفترقان. وأظننى أرجح سببا بعينه. هذا الإنسان الجديد يفتقر إلى الحنان. أنا وكل فرد فى هذه القاعة لم يعد يحصل على حصته من الحنان كاملة. طبعا لا أقصد أن كلا منكم يعانى بالضرورة من قلق دائم أو متقطع، وإن كنت أميل إلى أننا جميعا مرضى بنقص حنان. بعضنا بقلق مزمن وبعض آخر بقلق موسمى. أظن أن الزميلة الجالسة فى مواجهتى توافقنى الرأى، أو هكذا تبينت من نظراتها».
قالت، بعد لحظة صمت: «أحسنت الصياغة أيها الزميل. أريد فقط قبل أن أسترسل أن أضيف إلى ما قاله الزميل عن أنواع القلق، ومنه كما قال الدائم والمتقطع ومنه المزمن والموسمى. منه أيضا، وهذا هو ما أردت إضافته، القلق الخبيث والقلق الطيب. أتصور كما تتصورون ولا شك أن أسباب زيادة القلق وانتشاره عديدة، منها كما ذكر الزملاء الهجرة، فأهم دوافعها قلق، ومسيرتها قلق، ونهايتها أيضا قلق. منها أيضا الزيادة المطردة فى عدد غير المشتغلين سواء بسبب إحالتهم إلى الاستيداع أو تقاعدهم أو بسبب البطالة والاستغناء أمام زحف التكنولوجيا، وبخاصة التكنولوجيا المبيدة للوظائف. لكن دعونى أنتقى السبب الذى يتحمل، فى نظرى، أكبر قسط من مسئولية القلق المنتشر فى كل أرجاء العالم. السبب هو أن البشرية تعيش عصرا تراجعت فيه معظم المؤسسات المانحة للحنان عن أداء دورها الرائع فى تنشئة البشر وتنمية قدراتهم وترشيد نضوجهم ورعايتهم فى كهولتهم.
تعلمون أن حنان الأم كان وسيبقى أعلى أنواع الحنان. وها أنا أم آن لى أن أعترف أمامكم أننى صرت أقصِّر فى ممارسة هذه الوظيفة الرائعة مع أولادى. أنا وكثير من الأمهات خرجنا للعمل حيث لا حنان هناك وتركنا البيت بدون حنان. هنا عجز فى الحنان، وهناك عجز ومن نقص حنانى، ما أستحق منه وما أمنح، صرت أنا نفسى أعانى من آلام عاطفية لن أشرحها فى العلن. أنا أعيش فى قلق وعائلتى ظهرت على جميع أفرادها أعراض أمراض ناتجة عن القلق، بعضها يهدد الآن وحدتنا وصحتنا العائلية.
***
تدخلت مؤيدا وضربت المثل بتجاربى وأنا تلميذ صغير مع معلمى المدرسة الابتدائية. عشت فترة غير قصيرة من عمرى أتذكر المعلمة التى مهدت طريق صعودى من روضة الأطفال إلى الصف الثانى من المدرسة الابتدائية متجاوزا عامين دراسيين. بقيت أذكر أشياء عديدة عن علاقة هذه المعلمة بتلميذها، وأخص بالذكر حزمها المطعم بلفتات حنان فريد فى نوعه وتأثيره. أذكر أيضا معلما للرسم أعتقد أنه سبب اقتناعى أن وراء كل مبدع شخصا حنونا. لا أتخيل نفسى أطالب معلما أن ينشر الحنان فى فصل يكتظ بمائة تلميذ أو ما يزيد، أو أنتظر من تلميذ فى هذا الفصل أن ينشأ حنونا محبا. أحدكم ألقى بمسئولية الإصابة بالقلق على أمهات تخلين بعض الوقت عن أداء وظيفة الأمومة وخرجن ليعملن ويعولن أو حتى ليصعدن سلم المجتمع، آخرون ألقوا بالمسئولية على الكثافة السكانية وازدحام الفصول الدراسية. نسينا حقيقة أن الدول فى جميع أنحاء العالم باستثناء دولتين أو ثلاث فى أقصى شمال أوروبا صارت ترفض أداء أدوار الرعاية لمواطنيها. لا جدال فى أن ما نشهده من مظاهر تمرد أو عناد وقلق يحدث نتيجة أن العلاقة بين الإنسان والدولة صارت تخلو من عنصر الرعاية، أى من الحنان. علمتنى التجارب أن القسوة فى البيت أو فى المدرسة أو فى المجتمع لا تبنى المواطن السوى، إنما يبنيه الحب والحنان.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي