فى قلبى يد وبقعة ضوء - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 2:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى قلبى يد وبقعة ضوء

نشر فى : الأربعاء 22 مارس 2017 - 10:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 22 مارس 2017 - 10:50 م
أعترف أن أصغر أطفالى وابنتى الوحيدة تلقى معاملة قد تبدو أحيانا أنها تفضيلية، وأننى أظهر فى علاقتى معها بعض التراخى بالنسبة لصرامة القواعد التى كنت قد وضعتها لأطفالى منذ سنوات فى أمور محددة، كمواعيد النوم والالتزام ببعض المسئوليات داخل المنزل من قبلنا جميعا، كما وبالنسبة لطلب أطفالى أن يناموا فى سريرنا، سرير والدهم ووالدتهم، وهو شىء عادة ما أسمح به فى حالتين استثنائيتين هما مرض أحدهم أو تعرضه لكابوس.

إنما أعترف أننى، ومع الطفلة الثالثة، قد خففت من القواعد على ثلاثتهم. ربما بحكم أننا قد نصبح أكثر مرونة عموما مع الوقت، بما أنه يصبح باستطاعتنا أن نتوقع ما يمر به الأطفال ونستجيب له بحكم الخبرة. أو ربما أننا، ونحن أكبر ببضع سنوات منذ أول ولادة، نصبح أقل توترا من ذى قبل ونتعامل بأريحية أكبر، فيظهر ذلك على شكل علاقة تميز بين آخر العنقود وأوله.

حين أصل إلى السرير وأجدها متكورة تحت اللحاف مثل قطة سعيدة بالدفء، أمد يدى لأضعها فوق أصابعها الصغيرة. أتكور بقربها فأجد نفسى أستمد الدفء من جسدها الصغير، أضبط إيقاع تنفسى على إيقاع تنفسها المنتظم، أشم رائحتها حين أدس أنفى فى مكان يكاد يختفى أسفل عنقها، وأشم معها بقايا رائحة الصابون من حمام المساء.
***
أذكر أننى لحظة ولادة كل طفل من أطفالى الثلاثة، أسأل زوجى إن كان للطفل عشرة أصابع فى يديه وعشرة فى قدميه. اعتقد زوجى مع أول طفل أننى أهذى من جراء التخدير، لكننى أعدت السؤال عدة مرات، وكأنه بتأكيده على وجود العشرين أصبعا إنما يؤكد لى أن أطفالى ولدوا أصحاء.
أفكر فيما يحدث داخل القلب حين تشعر أن بقاء شخص على قيد الحياة يعتمد بشكل مباشر، وخاصة فى السنوات الأولى من عمره، على قدرتنا على الوفاء بمسئولياتنا تجاهه، ثم أفكر ببقعة الضوء التى تظهر مع بداية علاقتنا بالطفل، قد يغطى التعب والالتزامات على تلك البقعة فى البداية، فأنا، وعن نفسى فقط، لا أستطيع أن أجزم أن حبى لأطفالى ظهر كنار مشتعلة فى أول لحظات لقائى بهم فى المشفى. فبصراحة أنا ازداد حبا للأطفال مع مرور الزمن وبسبب العلاقة التى تشكلت بينى وبينهم، فقد يكون جزء من الحب غريزيا، إنما ما أعيه هو أن حبى لهم مبنى على علاقتى بهم، وأن التفاصيل اليومية وفرضهم أنفسهم على حياتى قد أجبرنى على مراجعة الكثير من أفكارى التى كنت قد بنيتها بعناية قبل أن يسقطوا فى حضنى قبل سنوات، وقبل أن تكبر بقعة الضوء التى ظهرت عند ولادتهم لتغطى عقلى مع الوقت.
جل ما فرضه على أطفالى من مراجعة مواقف تتعلق بعلاقتى مع والدى، فبتُّ فجأة أكثر تفهما لبعض ما كان يضايقنى فى فترات سابقة. أصبحت أكثر تقبلا لبعض ردات الأفعال التى كنت أراها إما عاطفية أو غير مفهومة، أصبحت أضم صغيرتى فى نومها وأفكر أننى يجب أن أضم أمى فى اليوم التالى، فهى بحاجة أن تحبها ابنتها كما أريد أنا أن تنظر إلى الصغيرة حين تستيقظ.

***
هناك نوع من الحب لا يظهر إلا عند الأم، سواء التى حملت وأنجبت أم تلك التى ربت بصدق بدلا عن الأم. هناك شيء يمسك بالقلب ولا يفلته منذ اللحظة الأولى للعلاقة. هى يد تلتف حول قلب الأم فتشد وترخى قبضتها عليه حسب الأحداث. تقرص تلك اليد القلب فتقلق الأم، تدغدغه فتفرح، تعصره فتبكى، هى يد تظهر مع ظهور الطفل فى حياة المرأة ولا تذهب حتى تذهب المرأة إلى التراب. يد ترافق الأم طوال الحياة فتصبح قرينتها فى الفرح والحزن. تظهر على اليد التجاعيد تماشيا مع الخطوط الرفيعة التى تظهر على وجه الأم بينما يكبر الأولاد، تبدو عروق اليد أوضح تحت طبقة الجلد التى تصبح أرق بفعل السنوات، فتخفف قليلا عصرها لقلب الأم بينما يصبح أولادها أشخاصا لهم حياتهم خارج العش. تلك اليد التى تمسك بقلب الأم تشبه كثيرا وجه الأم ذاتها، قوية فى شبابها، أكثر رقة حين تكبر، أقل حدة حين تجلس فى كرسيها لتستريح من رحلتها الطويلة.

***
أضطر أن أذكر نفسى مرارا أننى سوف أسترجع لقطات كثيرة، حين أجلس وحدى بعد أن يكون البيت قد هدأ من الأصوات وواجبات المدرسة وخبز كعكات أعياد الميلاد. سوف أجلس وحدى أتذكر كيف بكيت حين ظهر ابنى فى مسرحية المدرسة فرأيته أجمل الأولاد. سوف أربت على قلبى وأنا أتذكر محاولات ابنى الثانى أن يلفت نظرى بعد ولادة الصغيرة، دون أن أفهم وقتها أنه يحاول أن يؤكد لى أنه موجود وأنه مهم، سوف أتذكر أننى قرأت فيما بعد عن ظاهرة «الطفل الأوسط»، وكيف أنه غالبا ما يشعر أنه محشور بين الأكبر والأصغر ولا مكان فعليا له فى مساحة العائلة.

***
سوف أغمض عينى وأتذكر عيد الأم وكيف وقفت فى المطبخ مع أطفالى الثلاثة نعد لوالدتى قالب الحلوى، وكيف أننى فكرت يومها أن الأم ملكة تفرد لحافا على أولادها بدل العرش، فهى لا يهمها العرش بقدر ما يهمها أن تقى أطفالها برد الشتاء ولهب الصيف. حين أصبح جدة بدورى، سوف أجلس على الكرسى وأستجمع كل الصور التى ظهرنا فيها أنا وأمى وأولادى وسوف أمسك باليد التى تلتف حول قلبى فأقبلها وأنا أتخيل أنه قلب أمى.

كل سنة وأنت ملكة يا أمى.

 

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات