الأرقام بين خنقة السياسى وبراح الشاعر - سلمى حسين - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 8:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأرقام بين خنقة السياسى وبراح الشاعر

نشر فى : الأحد 22 مايو 2011 - 8:49 ص | آخر تحديث : الأحد 22 مايو 2011 - 8:49 ص

 دائما ما تضفى الأرقام على الكلام هالة القدسية، فيصبح الكلام المرسل وكأنه حقيقة مطلقة. ولأن الأرقام بطبعها مزعجة فقليلون من يدققون فيها.

ويعرف السياسيون هذه الحقيقة عن الأرقام، فيستعينون بمستشارين يدسون لهم من الأرقام ما يساعدهم على تمرير السياسات التى يريدون تمريرها رغم أنف الجماهير. فهى أحيانا أرقام للإبهار، كما كان يفعل ببراعة وزراء ما قبل الثورة، وأحيانا أخرى هى أرقام للفزع. تماما كما حدث منذ أيام قلائل.

فقد صيغت مجموعة من الأرقام وأذيعت من خلال كل وسائل الإعلام كان من شأنها بث الفزع فى النفوس. وسأترك للقارئ إجابة سؤال: لماذا أراد الحاكمون تخويف الناس؟. لأسأل أسئلة أراها لا تقل أهمية: مثلا لماذا بدت الأرقام بهذا السوء؟ وهل هناك ما يخلق الفزع من حال الاقتصاد؟

وللإجابة هناك بعض الحقائق عن أداء الاقتصاد بعد الثورة: أولا لم تصدر بعد أى أرقام رسمية مدققة عن الأداء الاقتصادى خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2011. والجهة الرسمية لاعلانها هى وزارة التخطيط، وسوف تعلنها فى خلال أيام.
وحتى عندما تصدر تلك البيانات، فعيبها أنها لا تعطى صورة عن النشاط الاقتصادى اليوم، بل عن فترة ماضية. فما تقوله لنا البيانات الرسمية للنشاط الاقتصادى أشبه بما يراه قائد سيارة زجاجها مطلى بالأسود، وليس لدى السائق سوى المرايا الجانبية للسيارة. وبالطبع فهذه المرايا لا تعطيك سوى صورة ما هو خلفك، أى ما فات.

إذن أى بيانات صدرت أو ستصدر عن الاشهر الثلاثة الأولى من العام هى فعل ماضٍ، لا تقول لنا ما هو شكل الاقتصاد اليوم ولا الغد. فما هى صورة هذا الماضى القريب؟

بالضرورة أن كافة الانشطة الاقتصادية قد توقفت أو كادت خلال شهر الثورة وما بعده، كشأن أى ثورة شعبية، ولهذا سنجد بيانات يناير ــ مارس عن النمو قد تكون قريبة من الصفر، أو حتى سالبة. وهذا طبيعى، وقد حدث مثل ذلك فى الأرجنتين، حيث لم ينم الاقتصاد بل انكمش نتيجة اغلاق المصانع وبيع الاصول على نطاق واسع وظل ينكمش لسنوات عديدة. وفى إندونيسيا حدث بالمثل فى عام الثورة، ثم كان النمو فى العام التالى أقل من واحد فى المائة. أى أنه من الطبيعى أن نمر بمرحلة مثل تلك وان كانت المؤشرات المصرية تشير إلى أن الحال لن يكون بهذا السوء.

أما عن شهرى أبريل ومايو، فلن تظهر بياناتهما الرسمية قريبا. لذلك يلجأ الاقتصاديون والإعلاميون لمؤشرات لتلمس الأحوال، من أهمها مبيعات السلع المعمرة كالسيارات والاجهزة المنزلية. فالمستهلك لن يقدم على شراء هذا النوع من السلع ــ غير الضرورية وغالية الثمن ــ إلا إذا كان واثقا أنه لن يفقد وظيفته فى الاجل المتوسط ويشعر بالاستقرار الاقتصادى.
ويشير تحقيق صحفى نشر فى الأهرام إبدو منذ أسبوعين إلى أن أصحاب معارض السيارات يلحظون ان المبيعات التى وصلت لدى بعضهم إلى الصفر فى فبراير قد ازدادت خلال أبريل بشكل ملحوظ. فمثلا فى هيونداى، حيث كانت المبيعات فى فبراير 2011 عٌشر المبيعات خلال نفس الشهر فى العامين الماضيين، إلا أن مبيعات أبريل تضاعفت أربع مرات عن الشهر السابق.
وحتى عن شهر فبراير أحلك شهر لأصحاب الاعمال، فإن مبيعات السيارات فى مصر وصلت إلى ثلث مبيعات العام الماضى (أى بكل تاكيد لسيت صفرا)، وفقا لتقرير مركز معلومات سوق السيارات (أميك).

كما يجمع أصحاب محال الأجهزة الكهربائية الكبرى وشارع عبدالعزيز أن مبيعات أبريل وصلت إلى 70 فى المائة من مبيعات نفس الشهر من العام الماضى. بل يتوقع حسام المستكاوى من أوليمبيك جروب أن تستعيد خلال النصف الثانى من العام نفس مستويات العام السابق.
الخلاصة أن الأمور بدأت فى الانفراج، والاقتصاد سينمو بنسبة قد تفوق اثنين فى المائة. فلماذا التهويل والتخويف؟
السؤال الثانى، هل هناك ما يفزع؟ حين كان الاقتصاد ينمو بأكثر من 5% هل كان حالنا أفضل؟ دعوا الإجابة لمثال ضربه لنا فؤاد المهندس.

يعكف السبعاوى طه (فى فيلم عائلة زيزى) على تصميم ماكينة نسيج حديثة مبهرة، يريها للجميع مباهيا باختراعه، وعندما يضغط على زر التشغيل، نرى الماكينة تصدر بخارا وتهدر بصوت عال وتدور بسرعة، فيشهق المتفرج إعجابا بها، ثم فجأة يتضح لنا أن هذه الماكينة المهولة لا تنتج قماشا. هكذا كان النمو المرتفع فى مصر: بلا فائدة.

فرغم المصانع والشركات الحديثة التى أفرزتها الماكينة الاقتصادية الصاخبة قبل الثورة، بقيت الأمية وازداد الفقر. الماء والكهرباء والصرف الصحى لرواد الساحل الشمالى بينما المدن والقرى محرومة منها. ولم تزل القاعدة العريضة من الناس يرسلون أبناءهم إلى المدارس الحكومية وكأنهم يلقنونهم من صفحات بيضاء. ومن أراد التعليم فالشعار هو «ادفع لتحصل على البركة».

بل ظلت المشكلات الاقتصادية الكبرى على حالها، من تزايد الواردات من الغذاء والآلات، وانخفاض نسبة الصادرات التكنولوجية والصناعية إلى اجمالى الصادرات، وظل النمو معتمدا بالاساس على رءوس الأموال والاستثمارات الكبيرة والتى تخلق نمط إنتاج لا يحتاج إلى كثير من الأيدى العاملة، لتبدو متلازمة البطالة والنمو كمتلازمة داونى، لا علاج لها.

أولى بنا إذن أن نبحث عن مؤشر آخر لقياس تقدم الاقتصاد والبشر، وما أكثرها. فلا تدعوهم يخيفوننا بفزاعة انهيار النمو، وكأن الثورة هى التى انجبت الكساد. فكم عاصرنا أيضا خلال حكم مبارك سنوات عجافا (فى منتصف الثمانينيات ثم فى بداية التسعينيات ثم فى نهاية التسعينيات) اقترب فيها معدل النمو وحجم الاستثمارات الخارجية من الصفر، وقفزت البطالة إلى ما فوق العشرة فى المائة والتضخم إلى ما فوق العشرين فى المائة.

وسواء زاد معدل النمو أو نقص ففى كلتا الحالتين ظل أصحاب الأجور من موظفين وعمال وفقراء هم من يدفعون الثمن. لذلك أراد الشعب تغيير الماكينة. ولكن للسياسى حسابات أخرى.

يقول الشاعر على سلامة «من حقنا نحلم ولو كده وكده ونشوف الدنيا حلوة مع إنها مش كده». ويتخيل الشاعر «مثلا الكون جميل.. والنيل بقى ألف نيل» أو «مثلا مافيش جراح.. والخنقة بقت براح».. فيصبح ما يتمناه حقيقة.. هكذا هى قوة الشاعر لإنها تجردت من الحسابات والمواءمات.

وفى المقابل، يقف السياسى لكى يعلن عن خنقة حتى ولو لم تكن حقيقية، لعجزه عن التجرد من الموءامات.
وأحسب أن الثورة ما قامت إلا لتزيح مواءمات ومصالح فئات سادت وظلمت ولتزيد مساحات حركة فئات ما تريد إلا العيش فى البراح.

سلمى حسين صحفية وباحثة متخصصة في الاقتصاد والسياسات العامة. قامت بالمشاركة في ترجمة كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين، لتوماس بيكيتي. صدر لها في ٢٠١٤ كتاب «دليل كل صحفي: كيف تجد ما يهمك في الموازنة العامة؟».
التعليقات