فى ضرورة التخطيط القومى - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:46 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى ضرورة التخطيط القومى

نشر فى : الأربعاء 22 يونيو 2011 - 8:33 ص | آخر تحديث : الأربعاء 22 يونيو 2011 - 8:33 ص
يدور حوار مكثف هذه الأيام حول مضمون النظام الذى يفضله الشعب المصرى الثائر، بعد أن أسقطت ثورته نظاما مارس تحت مسمى «الوطنى الديمقراطى» كل أنواع القمع والظلم وإهدار كرامة الفرد والدولة. وينطلق الحوار من استهداف إقامة نظام ديمقراطى يوفر الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ولما كان الجانب الاقتصادى هو الذى ينظم شئون المجتمع، فإن مقوماته تحدد وظائف كل من الأفراد ومؤسسات الدولة بما يكفل تحقيق الغايات التى يتبناها المجتمع. وحتى يفضى الحوار إلى نتيجة يتوافق عليها الجميع، فإن من المهم تبين موقع تلك الوظائف، وما تعنيه من واجبات وحقوق، من قضيتى الحرية والعدالة، والعلاقة الجدلية بينهما.

•••

فمنذ انطلاق الرأسمالية، بشقيها التجارى والصناعى، جرى تصنيف النظم وفق قواعد اتخاذ القرار والأطر التى توضع وتنفذ فيها تلك القرارات، وما يعنيه ذلك من الحرية فى ممارسة النشاط. ففيما يتعلق بقرارات الإنتاج، وما تنطوى عليه من اختيار أنواع وأساليب الإنتاج، وتوظيف مستلزمات يملكها آخرون، بما فى ذلك خدمات العمل، تطلق الحرية لمالك رأس المال. فله الحق فى الربح إن أصاب وعليه تبعة الخسارة إن أخطأ. والذى يحدد كسبه أو خسارته هو جمهور المستهلكين شريطة امتلاكهم حرية الاختيار. وتحدد حرية الملكية الفردية فى نطاق عدم استخدامها فى الإضرار بالمجتمع؛ وبحرية الأسواق، التى يجرى فيها التعامل بين المنتج وما يطرحه من عرض، وحرية المستهلك بما لديه من موارد يحقق بها طلبه.

حيث يلتقى الاثنان عند سعر يعلو أو ينخفض وفقا لمدى تجاوز أحد الطرفين للآخر. فإذا أحسن المنتج الاختيار ارتفع ربحه، مما يغرى آخرين بمحاكاته، مما يزيد العرض ويخفض السعر، فيلبى قدرا أكبر من الطلب، وهذا فيه صالح المجتمع. أما إذا أساء التقدير ولم يقبل عليه طلب كاف، انخفض السعر وانكمش الربح بل وربما انقلب إلى خسارة تجبره على الانسحاب كلية فيضيع عليه رأسماله، ويكون «الإفلاس هو الحل». وهكذا قيل إن سعى الفرد لتحقيق مصلحته يفضى إلى تحقيق مصلحة المجموع.

ولكن ما حدود حرية كل من الطرفين: المنتج والمستهلك؟

أكد الاقتصاديون التقليديون (الكلاسيك) ضرورة حرية الأسواق، حتى تعبر بصدق عن واقع كل من العرض والطلب، وهو ما يقتضى حظر احتكار البيع أو الشراء. فإذا تدخلت الدولة، وتسلطت على الأسواق بغرض الترويج لمنتجات بعينها على حساب أخرى، غابت حريات الأفراد، وفقدت الأسعار دلالتها بالنسبة لاختياراتهم الإنتاجية والاستهلاكية. على الجانب الآخر هاجم الفكر الاشتراكى هذا المفهوم للحرية مستندا إلى أمرين أساسيين: الأول الإيهام بأنه مطلق تتساوى فيه الحقوق للجميع، رغم أنه نسبى يشتد فيه التفاوت نتيجة اختلافات عند الدخول إلى السوق، وهى اختلافات تزداد حدة نتيجة التعامل فى ظلها، فيزداد الغنى غنى والفقير فقرا. لنأخذ مثالا على ذلك الإسكان: إذا قرر المنتجون إنشاء منتجعات لارتفاع ربحيتها، فسوف تتجه إليها أنشطة البناء ومواده، ولا يجد الإسكان الشعبى من يعنى به، فتنتشر العشوائيات وما ينجم عنها من آفات. ولو كانت دخول الأفراد أكثر تقاربا لما نشأ هذا الوضع المختل. الأمر الثانى أنه ما يصيبه الأفراد فى فترة معينة، يحدد مدى حريتهم فى الفترة التالية. فمن جنوا أرباحا عالية سيصبحون فى موقف أقوى من الذين تدنت أرباحهم وأجورهم. أى أن مدى الحرية لكل فرد سيصبح محكوما بما جرى فى السابق وينعكس التصرف وفقا له على حريته فى الفترات التالية. وتتعمق تباينات توزيع الدخل عبر الزمن، وهو ما تجلى بوضوح فى الحقبة الأخيرة، داخل كل دولة، غنية كانت أو فقيرة، وبين الدول.

فى هذا السياق أجيز تدخل الدولة لتعويض الأفراد عن حرياتهم المنقوصة، وفقا لعملية إعادة توزيع الدخل تحقق قدرا أعلى من العدالة الاقتصادية (يشيع تسميتها بالاجتماعية). وتستخدم لذلك آليات مالية تتمثل فى فرض ضرائب تتصاعد كلما ارتفع دخل الفرد، توجه حصيلتها على نحو يعوض أصحاب الدخل المحدود، والذين حالت البطالة والمرض والعجز دون تمكينهم من الحصول على أساسيات الحياة، ويصحح هيكل الإنتاج ذاته لكى يستوفى متطلبات المجتمع من البنية الأساسية والخدمات الاجتماعية غير المربحة رغم ضرورتها، ويوفر أنواع المنتجات التى يرضى بها محدودو الدخل وهى عادة منخفضة الربحية، مع حصر التحكم فى الأسعار قى حدوده الدنيا.

فالاقتصاد فى النظام الرأسمالى يقوم على حرية السوق، التى يُعترف بما تنطوى عليه من تفاوت فى توزيع الدخل يُقبل كثمن لتوجيه الإنتاج إلى ما هو أكثر قيمة، فيرفع معدل النمو. وتصبح المعادلة هى حرية من أجل نمو أعلى ولو انطوى على ظلم، فعدالة تستدعى لمعالجته، غالبا بصورة جزئية.

ومع تزايد أحجام الشركات المنتجة وعبورها حدود دولها لتجلب أرباحا من اقتصادات أخرى، ونمو قطاع المال الذى قوّى شوكة الرأسماليين، وتطور قطاع الخدمات خاصة فى القطاعات، التى استحدثتها الثورة التكنولوجية، شدد الرأسماليون الأمريكان من المطالبة بتخفيف الضرائب عليهم حتى لا يضطروا إلى تحجيم نشاطهم. فاستند ريجان إلى دعوى ابن خلدون بالتخفيف من الضرائب، ليحصر فاعليات العدالة الاقتصادية فى أضيق الحدود وتغنّى بجمال الحكومة الرشيقة التى تلقى أعباءها على المجتمع، أفرادا وجماعات. وبادرت تاتشر التخلص من الإرث الذى خلفه اقتصاد الرفاهية الذى سيطرت به الدولة البريطانية على مقاليد الاقتصاد فى أعقاب الحرب العالمية بعد انكماش حيز النهب الاستعمارى بموجة استقلال المستعمرات، وشيوع فكر اشتراكى يرى الحرية من منظور العدالة، أى فى ذاتها كوقاية من الظلم وليس كعلاج له بعد وقوعه. وهكذا رفعت راية الخصخصة فتلقفها البنك الدولى، بينما تبنى صندوق النقد الدولى التخلى عن آليات إعادة التوزيع.

•••

وتُطلق اليوم دعاوى الليبرالية الجديدة، التى غلفها كلينتون وبلير فيما يسمى الطريق الثالث الذى سبق لنا (15/12/2010) بيان المغالطات التى ينطوى عليها. ومع انهيار المعسكر الشيوعى تبنت القوى المسيطرة على النظام الاقتصادى الحالى: الإدارة الأمريكية والصندوق والبنك الدوليان ثم منظمة التجارة العالمية، ما يسمى «توافق واشنطون» لفرض الليبرالية الجديدة على الدول النامية بدعوى الإصلاح الاقتصادى. وعندما اتضحت فجاجة برامج الإصلاح المزعومة تصاعدت المطالبات بإصلاح «ذى وجه إنسانى»، وبجعل الأسواق «صديقة للإنسان»، وهى اعترافات صارخة بلاإنسانية الإصلاح والأسواق، بما فيه أسواق العمل التى تباع فيها خدمة العمل وتشترى. هذه الخدمة لصيقة بالإنسان صاحبها، بينما خدمات رأس المال لصيقة بالمال الذى يتراكم عبر الزمن وقد يتضاعف فى لحظات. ومما يزيد من خطورة الأمر فى المستقبل أن ثورة التكنولوجيا قد أخضعت كلا من المال والعمل لخدمات تبدعها المعرفة، الأمر الذى يضيف قضية الملكية الفكرية.

•••

إن الأمر يقتضى البدء بالعدالة الاجتماعية التى توفر لجميع أفراد المجتمع القدرة على الإبداع والعطاء أى «تمكينه» empowerment وفقا لتعبير أستاذ التنمية الإنسانية، أمارتيا سن، حتى يمتلكوا عند كل نقطة زمنية حرية حقيقية وفعالة للمشاركة فى نشاطات المجتمع الجارية والمستقبلية دون عائق ذهنى أو جسمانى أو مادى. وحتى يتحقق هذا لابد من تخطيط قومى شامل، يستند إلى إستراتيجية لتحقيق نهضة قومية يتوافق المجتمع عليها. ولا يعنى هذا تطبيق المنهج التخطيطى للدول الشيوعية، التى اعتبرت اقتصاداتها «مخططة مركزيا». فتلك الدول كانت فى الواقع «مدارة مركزيا» لأنها نقلت عمليات اتخاذ القرار من المستوى الوحدى إلى المركز القومى. ما نعنيه هو تخطيط توجيهى directive، لا يصل إلى حد مركزية القرارات ولا يتواضع إلى مستوى قائمة معلومات تزود الأفراد بمؤشرات. بل هو يرسم خريطة طريق أمام جميع المستويات، فتطمئن الوحدات إلى وضوح الرؤية أمام صانعى السياسات وصائغى التشريعات، لتأتى القرارات التى يتخذونها بحرية تامة، متسقة مع بعضها البعض فى الإنتاج والاستهلاك، ومعظّمة العائدات للمجتمع بكل أفراده وفئاته.

 

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات