«سيد البحراوى».. فى وداع أستاذ حقيقى! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:04 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«سيد البحراوى».. فى وداع أستاذ حقيقى!

نشر فى : الجمعة 22 يونيو 2018 - 9:25 م | آخر تحديث : الجمعة 22 يونيو 2018 - 9:25 م

كنت أسمع باسمه الذى كان ملء السمع والبصر بين الطلاب المتفوقين والمتطلعين لآفاق أكبر وأوسع، سمعت عنه أنه من أقرب الأساتذة إلى الطلاب، إن لم يكن أقربهم، ورغم ملامحه المتجهمة دائما العابسة دوما، إلا أن ثمة إجماعا بأن «سيد البحراوى» تجسيد حقيقى وكامل لقيمة الأستاذ الجامعى؛ الأستاذ المعنى بأن يكون طلابه أول المختلفين معه، والمعارضين له، شريطة أن يكونوا قادرين على صقل مهاراتهم واكتساب أدواتهم التى تمكنهم من تكوين «وجهة نظر» جادة وأن يستطيعوا التعبير عنها بوعى ووضوح.
كان البحراوى «أستاذا» حقيقيا فى وضع طلابه على أول طريق «الثقافة» بمعناها الشامل والعميق؛ الثقافة التى تعنى القدرة الحقيقية على تكوين «رؤية» و«رأى» متماسك فى أى قضية أو موضوع محل نظر، أن تكون قادرا على تقديم المبررات والحيثيات التى تدعم هذا الرأى وتدافع عنه.. أن تكون نفسك، وأن تعلى من قيمة التفكير الحر المستقل، وأن تثق فى إمكان أن تكون كذلك، دون أن تكون نسخة «مكرورة» من هذا أو ذاك.
وأشهد أن «البحراوى»، رغم حدته وعصبيته وقسوته التى لم نكن نجد لها مبررا فى هذه السن، أنه كان إنسانا مرهفا حساسا بل شديد الحساسية تجاه طلابه والناس جميعا، كان يحب طلابه ويحنو عليهم دون تكلف أو اصطناع أو تزلف.
فى أول لقاء جمعنى بسيد البحراوى فى الجامعة، قلتُ فى سرى «هذا الرجل إما أن يكون أستاذا عظيما أو مجنونا!»، وبعد عشرين عاما من لقائى الأول به أشهد بأنه كان إنسانا نبيلا وأستاذا جليلا، وأنه نجح فى الحفاظ على نبالته وقناعاته؛ إنسانيا وفكريا وجامعيا، فى عالم يعج بالمجانين!
ونحن فى الفرقة الرابعة بقسم اللغة العربية أعرق وأقدم أقسام كلية الآداب بجامعة القاهرة درس لنا قصة قصيرة لمحمد البساطى اسمها «لقاء»، ضمن مجموعة (هذا ما كان)، القصة كلها نحو صفحتين ونصف الصفحة، تدور حول أستاذ «معلم» يزور طالبا قديما درس له اسمه «خليل».. ينتظر هذا الأستاذ تلميذه أمام حجرته فوق السطوح، وحينما يعود خليل من عمله، يدخلان معا الحجرة ويدور بينهما حوار شديد التكثيف والاختزال نعرف منه التفاصيل اللازمة والضروية لكشف العلاقة بين الرجلين.. تنتهى القصة بمغادرة الأستاذ دون أن يقضى ليلته عند تلميذه وكان يتعشم أن يبيت ليلته هناك لحين انتهاء المصلحة التى جاء من بلده لإنهائها.
وبهرتُ بالتحليل الذى قدمه سيد البحراوى للقصة، كان الدرس الأهم الذى تعلمته فى ذلك اليوم ألا تنخدع ببساطة النص الظاهرة، كل كلمة، وكل جملة، وضعت فى مكانها لتنتج «دلالة ما»، قد تتفاوت درجة استخلاصها أو الالتفات إليها من شخص لآخر بحسب استعداد وثقافة وعمق وحساسية هذا القارئ.. أذكر أن جملتين وقف عندهما «البحراوى» وقال هما مفتاح القصة ومفتاح قراءتها.. «المكان هنا لا يتسع» (لا أنسى هذه الجملة فى سياق القصة بعد أن كشف الأستاذ عن محوريتها)، وكانت هذه القصة البداية لقراءة عالم البساطى القصصى واكتشاف جماليات سرده عموما.
أما الاكتشاف الأهم فكان متابعة تحليلات سيد البحراوى المذهلة لنصوص روائية وقصصية وشعرية؛ حينما فوجئتُ بأننى لست إزاء أستاذ جامعى جليل القدر رفيع الشأن فقط؛ إننى أمام ناقد كبير جدا!
وتكرر الأمر ذاته فى تحليله الرائع المدهش لقصيدة صلاح جاهين «الأرض مش زى الدهب»، ربما كانت من المرات القليلة التى حفظت فيها قصيدة كاملة بمجرد قراءتها للمرة الأولى؛ أما تحليل البحراوى للقصيدة والكشف عن جمالياتها الإيقاعية والتصويرية، واستخلاص دلالاتها الكلية من مجمل التحليل فكان سحرا مبينا؛ حساسية مرهفة ووعى يقظ وربط دقيق للجزئيات.. إنه ناقد كبير!
نشر البحراوى تحليله لقصيدة صلاح جاهين فى مجلة (الشعر) المصرية إبريل 1990 وكان يحيل إليها للقراءة والاطلاع فقط! هذه المقالة الذهبية كانت واحدة من تجليات البحراوى النقدية التى لا تنسى، تمر الأعوام ويبقى أثرها طازجا عفيا، قويا وساطعا، ربما لأنها كتبت كذلك (أو هكذا أتصور).
عندما كان يتحدث البحراوى أثناء المحاضرة ووصلت به الحماسة إلى ذروتها وهو يحلل ويشرح القصيدة ويقدم قراءته البديعة لها، لم يكن يدرى أنه يحفر فى قلوبنا محبة صلاح جاهين ومحبة قصيدته العامية، لم يكن يعلم أنه ينقش محبته وتقديره هو «شخصيا» فى عقولنا وقلوبنا بحروف من نور.
وقس على ذلك تحليله المختلف لرائعة يحيى حقى «قنديل أم هاشم»، وفى قراءته العميقة للنص التأسيسى «حديث عيسى بن هشام»، وفى نظراته الذكية المكثفة لقضايا إشكالية فى علم اجتماع الأدب؛ من أول الجدل المثار حول نشأة الرواية العربية ونصوصها الأولى، مرورا بمناهجه وأدواته الإجرائية والتحليلية، وصولا إلى التطوير المستمر والمراجعة الدائبة للمفاهيم والمقولات النقدية أولا بأول.
هذا الرجل، تعلمتُ منه الكثير، وترك فى نفسى وعقلى ما سأظل مدينا له به إلى آخر عمرى.. «سيد البحراوى» الذى يمكن أن تختلف معه كيفما شئت، وتعارضه فى الكثير والكثير من المواقف والآراء؛ لكنك لن تختلف أبدا على قيمته وعمق تأثيره فى أجيال من الطلاب؛ لن تختلف على أنه «الناقد» الذكى اللماح، و«الأستاذ» الجامعى النبيل، و«المثقف» المهموم بقضايا وطنه وناسه، الذى لم يهادن ولم يتنازل ولم يلن ولم يطمع.
رحم الله الأستاذ الجليل سيد البحراوى وأسكنه فسيح جناته.