ما سيبقى من جمال خاشقجى - داليا سعودي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 2:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما سيبقى من جمال خاشقجى

نشر فى : الإثنين 22 أكتوبر 2018 - 10:20 م | آخر تحديث : الثلاثاء 23 أكتوبر 2018 - 2:20 م

حتى آخر لحظة فى حياته، لم يكن جمال خاشقجى يصنِف نفسه على أنه معارضٌ للنظام. أعود إلى مقالاته التى كتبها من منفاه على مدى عامه الأخير فى صحيفة «واشنطن پوست» فلا أجد فيها تلك النبرة المتهجمة على السلطة، التى عادة ما يعتمدها المعارضون حين يعلمون أنهم فى مأمن من طائلة البطش. كانت كتاباته ليبرالية إصلاحية لا تخرج عن مظلة نظام أفنى العمر فى خدمته، ولا تشكك للحظة فى شرعيته التى ظل يدافع عنها خارج الوطن، مثيرا بموادعته تلك حفيظة المعارضين التقليديين ممن تغيب عنهم «خصوصيات» موطنه.
فى عدد مجلة تايم الذى سيصدر فى 29 أكتوبر، ويحتل جمال خاشقجى غلافه، ينعيه صديقُه الكاتب البريطانى روبرت ليسى الذى عرفه لسنوات طويلة منذ كان يعمل فى سفارة المملكة بلندن، فيصف رجلا «سعوديا وطنيا حتى النخاع، عشق المملكة بكل محاسنها وعيوبها، وكرس حياتَه محاولا أن يراها أكثر انفتاحا واستجابة لمطالب الشعب».
ستبقى من جمال هذه الصورة المحبة للوطن، بكل ما تحمله المحبة من شجاعة ومن غيرة ومن أمل حالم. ستبقى رغم كل السهام التى انطلقت تهاجمه بعد اختفائه، وكل الملاحقات الماكارثية التى تهاجم المتعاطفين مع اختفائه.
***
سيبقى من جمال صوتٌ أخلاقى تتجاوب أصداؤه فى فضاءات الغياب، يذكرنا بعدالة القضايا التى انحاز إليها. ولا ننسى نصرته للقضية الفلسطينية وتمسكه بعروبة القدس. مازلتُ أسمع صوته العميق فى تصريحه الشهير إثر نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، مرددا تلك الكلمات المدوية: «من يتنازل عن القدس، كأنه يتنازل عن الحرمين الشريفين، أنا كابن لخادم الحرمين الشريفين، القدس لا تقل عندى أهمية عن الحرمين وأنا لا تكتمل مشروعيتى إلا بالقدس أيضا».
هذا الصوت الأخلاقى الممتلئ غيرة على مصلحة الوطن، نسمعه عالى النبرة فى آخر مقال نشره بصحيفة «واشنطن بوست» قبل اختفائه، وهو يدعو بلاده إلى «إنهاء الحرب المتوحشة فى اليمن»، مبينا «الأضرار التى لحقت بالوطن من جراء استمرار هذا الصراع»، شارحا كيف خربت الحرب علاقة بلاده بالمجتمع الدولى، وكيف «أثرت على الوضع الأمنى الإقليمى».
هذا الصوت الحالم بشجاعة، المختلف بهدوء، كانت قضيته الأولى والأخيرة هى حرية التعبير. ولم يكن اعتناقه لروح الربيع العربى سوى ترجمة حرفية لهذا التوق الحالم بهامش ولو ضئيل لحرية الكلمة. كان يعى بحزنٍ ما تلقاه حقوق الإنسان من انتهاك يومى فى هذا العالم الترامبى بامتياز، لكنه لم يكف حتى لحظة النهاية عن ذلك التوق الحالم. فنراه يورد فى آخر ما كتب نتائجَ مؤشر حرية الصحافة لعام 2018 الصادر عن مؤسسة «فريدام هاوس»، والقائل بأن العرب باتوا يعيشون خلف ستار حديدى يفرض حالة من التضليل والتجهيل.
***
فما الذى تبقى من رجلٍ تأنس الهرة العابرة إليه، فتقفز على ركبتيه طلبا للدفء أثناء تسجيل برنامج تلفزيونى معه فى مكان مفتوح؟ ما الذى تبقى من الإنسان الذى رأيناه باسما فى صورة عائلية مع حفيدته الجميلة فى فستانها الموشى بغزليات نزار قبانى؟ «حتى فساتينى التى أهملتُها.. فرحتْ به.. رقصت على قدميه..». ماذا تبقى منه فى قلوب عائلته وأصدقائه وزملائه وقرائه، وفى قلب خطيبته خديجة؟
ماذا تبقى من رجلٍ كانت وصيته أن يُدفن فى المدينة المنورة فى جوار مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام فى مدافن البقيع؟ عادت الروح إلى بارئها واختفى الجثمان الذى لم يتم الإعلان عن العثور عليه حتى كتابة هذه السطور، والذى أشيع أنه قد مُثِل به بأبشع صورة. تذكرنى أمنيته تلك بأسطورة حجازية حكتها لى صديقة من المدينة المنورة نقلا عن الخيال الشعبى الخصب وقصص الجدات الطيبات. أسطورة «الجِمال السود والجِمال البيض» التى كانت تُردِد قديما أن بعض الساهرين على مقربة من البقيع كانوا يتبينون بعد انتصاف الليل فى الأمسيات المقمرة جِمالا بيضاء تحمل نعوشا بيضاء وتدخل بها إلى مقابر البقيع فتستقبلها الأرض الطيبة ويحتضنها ثراها بترحاب نورانى. بمثل ما كانوا يلمحون جمالا أخرى سوداء اللون، تخرج محملة بنعوش سوداء لفظتها الأرض المطهرة وطردتها من جوار صحابة النبى مشيعة بغبار كثيف وريح عقيمٍ متناوحة.
فهل تعود رفاة جَمال على ظهر أحد تلك الجِمال البيضاء لتثوى بالبقيع كما كان يتمنى؟
لا يسعنا التعويل على الأساطير، لكننا نعلم أن الكلمات هى المادة الأولى لصناعة الأساطير. ولربما كان إبعادُ جمال خاشقجى من على الساحة بهذه الصورة المفجعة سببا فى إطلاق أسطورته. فالمفارقة العجيبة فى مهنة القلم، هى تلك العلاقة الطردية بين القمع والانتشار. فكلما تعرض الرأى للقمع كلما استقطب الاهتمام وحقق الانتشار، كأنما قد ثبتت أصالته وتأكدت صدقيته، كمثل المعدن النفيس لا تزيده النارُ إلا نقاء وإشراقا. المفارقة فى قصة جمال هى أن انقضاء حياته على هذا النحو الأليم يبعث الحياة فى كتاباته بعد مماته، ويعوض العمر المغدور بعثا عالميا لأفكاره، ويحقق لكلماته انتشارا ما كان ليحققه لو ظل يكتب أعوامه الباقية فى منفاه الإجبارى، حتى وإن انطلق من منصة لها من سعة الانتشار ما لصحيفة «واشنطن بوست».
***
ماذا سيبقى من جمال خاشقجى؟
لعل أصدق الحضور هو ما يستمر نابضا فى قلب الغياب.
هو ذلك الحضور الذى تجلى حين قررت صفحة الرأى نشر المساحة المخصصة لكاتبها الغائب وقد خلت من الكلمات، وكتبوا فوقها، تحت الصورة الباسمة للفقيد: «هنا كان من المفترض أن ننشر مقالة خاشقجى».
هو ذلك الحضور الذى تجلى حين قرر منتدى الخليج الدولى بواشنطن ترك كرسيه على منصة المتحدثين شاغرا ووضعوا أمامها صورة بالحجم الطبيعى لجمال باسما ممتلئا بالأمل وبالحياة.
هو ذلك الحضور الذى تجلى عبر صورة عملاقة للصحفى الغائب على واجهة متحف الإعلام بواشنطن على خلفية كُتب عليها نص التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة الأمريكية الذى يشدد على أهمية حرية التعبير، ويدين أى محاولة للحد من حرية الصحافة.
وهو بعد ذلك الحضور الذى جعل من وجه جمال خاشقجى يحتكر أغلفة الصحف والمجلات العالمية طوال الأسبوعين الماضيين فى تضامن حقيقى ونادر لصحافة العالم الحر فيما يشبه الثأر الشخصى للمهنة.
هى باختصار ثنائية الحضور والغياب التى تصنع الأيقونات. لا نجد ما يعبر عنها أفضل من تغريدة أطلقها جمال خاشقجى رحمه الله: البعض يرحل ليبقى...

 

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات