بطلة أرمنية مجهولة - كمال رمزي - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 10:22 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بطلة أرمنية مجهولة

نشر فى : السبت 22 نوفمبر 2014 - 8:45 ص | آخر تحديث : السبت 22 نوفمبر 2014 - 8:45 ص

كلما بدأت الكتابة عن فيلم «قطع» للمخرج الألمانى، ذى الأصول التركية، فاتح أكين، أعادتنى الذاكرة، بإلحاح، إلى تلك السيدة التى التقيتها، منذ ما يقرب من نصف القرن، أكثر من مرة، وحكت لى بصدق شفاف حكايتها التى يمتزج فيها الخاص بالعام، والبهجة بالقتامة، واليأس بالأمل.

ربما، كان الفيلم الذى يتعرض لمذبحة الأرمن، عام 1915، على يد العثمانيين، هو السبب فى حضور صورة وقصة تلك السيدة، على نحو أقوى وأعمق من العمل السينمائى المتميز، الذى نال عدة جوائز، فى مهرجانات دولية.

فى عام 1969، جاء تعيين: اخصائى فنون مسرحية بمديرية شباب الدقهلية.. محافظة بالغة الضخامة، يقظة ومتفتحة، وقبل ذهابى إلى المنصورة، العاصمة التى لا أقارب لى فيها، ولا أعرف أحدا، نبهنى صديق إلى أنسب لوكاندة، بالنسبة لى، هى «لوكاندة القاهرة الصغرى»، ذلك أن مبيت الليلة فيها بعشرين قرشا، وحذرنى من الذهاب للوكاندة «القاهرة الكبرى»، المنشأة حديثا، والتى تتكلف الليلة فيها جنيهين.

تنقلت، من لوكاندة لأخرى، إلى أن استقر بى الترحال فى بنسيون صغير، دافئ ومريح، خلف شارع السكة الجديدة، مكون من ثلاث غرف فقط، تديره صاحبة البيت، اليونانية، السبعينية، البدينة، اللامعة الذكاء. تعرف طباعك ونمط حياتك منذ اليوم الأول. مع اليوم الثانى تحقق لك ما تعودت عليه.

تجلس عادة على كرسى هزاز، بجوارها مذياع ضخم، أنيق، من الطراز القديم، لا ينطق ولا يغنى إلا باللغة اليونانية. من عاداتها الجميلة، أنها كل أسبوعين، تجميع سكان الحجرات الثلاث، لسهرة أسرية حميمة، حول طبق بطاطا، أو كيكة تصنعها بنفسها، أو صينية تمتلئ بالفول الحراتى.

لم يكن لصاحبة البنسيون أصدقاء، اللهم إلا قلة.. من بينهم سيدة فى مثل عمرها، تصطحب معها غلاما، فارق الشكل يلفت الانتباه، هى، ذات شكل أجنبى، لا يزال وجهها يلتمع بآثار جمال غابر، ملامحها شديدة الطيبة، تتطلع لك وكأنها تريد أن تحدثك.. بينما الولد، شديد السمرة، بتقاطيع مصرية تماما.. وعلى مدى عدة سهرات، روت المرأة قصتها.

فيما أذكر أنها من مدينة صغيرة بالقرب من «أضنة» التركية، ولدت فى بدايات القرن الماضى، ربما فى عام 1905 أو 1906.. لاحظت، وهى طفلة، أن أجواء الوئام والطمأنينة تبدلت فى بلدتها، خاصة عقب زيارة أحد أعمامها، بعيون حمراء متورمة من شدة البكاء، أخبرهم بأن قريبهم، الطبيب الشهير فى استانبول، تم إعدامه، مع آخرين من خيرة الأرمن، فى ميدان عام.. لم تمر عدة أيام حتى استيقظت الطفلة، ليلا، على أصوات صراخ واستغاثات. أمرتها والدتها بالهرب إلى الخارج.

اندفعت إلى الشارع، رأت الجنود يقودون طابورا من شباب الأرمن، مكبلين بالحبال، ومجموعات من الحثالة، يقتحمون البيوت، يستولون على كل ما تصل إليها أياديهم، بينما يهرب السكان، فى اتجاه الشاطئ.

واصلت السيدة سردها. أثارت دهشتى بوضوح بعض التفاصيل فى ذاكرتها.. منها أنها كانت تعدو بفردة حذاء واحدة لأن الثانية انخلعت من قدمها، وأن الصيادين، أصحاب المراكب، يأخذون كل شىء من الهاربين، قبل ركوب المراكب التى ستحملهم بعيدا عن المذبحة، ولسبب ما، أحس أحد الصيادين بالشفقة تجاه الطفلة الوحيدة، المرتعشة رعبا، فوافق على اصطحابها، بلا مقابل.. هكذا، كما لو أن المرء لن يعدم قلبا رحيما، وسط الجحيم.

اتجهت المراكب إلى البلدان المطلة على الأبيض المتوسط، لبنان، سوريا، فلسطين ـ أيامها ـ مصر، قبرص، اليونان، حيث نزلت الطفلة مع النازلين.. وهناك عملت خادمة عند أسرة ميسورة الحال، وبعد عدة أيام، أثناء غسل المواعين فى المطبخ، سمعت صوتا، ليس غريبا عليها. انطلقت إلى الشارع، فوجئت بأن صاحب الصوت هو والدها، متسولا، بملابس مهترئة.. تعانقا، سالت الدموع. أخذته إلى الأسرة الطيبة التى عينته بستانيا للحديقة الصغيرة.

قضت الطفلة عدة سنوات مع بنات الأسرة، تخدمهن، تذاكر معهن، تشجعهن، وحصلت على الشهادة الابتدائية.. بدأ الحظ يبتسم لها، متمثلا فى ذلك الشاب الرقيق، الأرمنى، صاحب مصنع الحلوى بسوريا، الذى يزور الأسرة اليونانية، لعلاقات تجارية، بانتظام.. خفق قلبه بحب الفتاة، طلب يدها.. الطريف، ملامح السيدة، أثناء سرد حكايتها، تتباين، تكاد تجاعيد وجهها وعنقها تتلاشى، وتلتمع نظراتها بالنضارة والإشراق، حين تصل لمحطات السعادة، وها هى، بحذر وحماس، تفتح حقيبتها، لتخرج منها صورتين، تعرضهما علينا مبتسمة برقة لا تخلو من انتشاء. واحدة لها، مع عريسها، تحت برج إيفل، تضع قبعة فرنسية كبيرة على رأسها، والثانية مع شريك حياتها، عند سور نهر السين. اللون البنى يصبغ الصورتين، على طريقة «كروت بستال» الأربعينيات.

استجابة لإغراءات عدة، انتقلت السيدة مع زوجها إلى مصر، بعد تصفية أعماله فى سوريا.

الاثنان، استقرا فى المنصورة، وبيقين، تؤكد المرأة أن «المنصورة»، بأهلها، وبمياه النيل الدائمة التدفق فى النهر العريض الذى تقع «طلخا» على الجانب الآخر منه، وفرص العمل المتوافرة فى مجتمع ذراعى، صناعى، وجمال فيللاتها ذات الزجاج الملون، المعشق، لنوافذها، هى أجمل مكان فى الدنيا، من وجهة نظرها، خاصة حين اكتشفت أنها عامرة بجالية أرمينية كبيرة، شطر منها متواجد قبل المذابح، بل منذ أيام محمد على «1805 ـ 1849»، الذى أسند لهم أرفع المناصب لما تميزوا به من مهارة وإخلاص، فضلا عن قدرة إنسانية على التعامل والاندماج مع المصريين، حتى إن فنان الكاريكاتير «صاروخان»، الأرمنى، هو الذى ابتكر شخصية المصرى أفندى.

كانت السيدة على قدر كبير من الثقافة، تتمتع بذاكرة حادة، تنتقل بنعومة من العام للخاص، ومن الماضى للحاضر، وكم بدا وجهها متغصنا بالألم عندما يأتى ذكر المهجرين من مدن القتال، الذين يعيشون فى ظروف صعبة، بالمنصورة وضواحيها، ففيما يبدو أنها تتذكر تهجيرها القصرى.

عن حياتها الشخصية، قالت، بلا ضيق، إنها رزقت بالمال ولم ترزق بالبنين، وأوصاها زوجها، قبل وفاته، أن تتبنى طفلا يتيما، تعامله كابنها، تعلمه، تجعله يتعهد لها، حين يكبر ويعمل، أن يتبنى طفلا يتيما.. وما الغلام الذى معها، الآن، إلا الخامس فى سلسلة أولادها.. كم أحببت واحترمت هذه السيدة التى أخذت تتراءى لى، بوضوح، عقب مشاهدة فيلم «قطع» الذى قد أتحدث عنه، لاحقا.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات