قاموس الحشد - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:52 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قاموس الحشد

نشر فى : السبت 22 ديسمبر 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 22 ديسمبر 2012 - 8:00 ص

حشود من البشر فى الشوارع والميادين وفى كل مكان يخطر، أو لا يخطر على البال. حشود تنطلق من مناطق وتجوب مناطق، ربما استحال على أى شخص فيما مضى، ومهما كانت درجة تفاؤله، أن يحلم بها؛ أحياء توصف بأنها راقية، وأخرى بأنها شعبية، وثالثة بكونها شديدة الفقر والاحتياج. يتساوى الكل أمام رغبة التعبير عن الذات.

 

●●●

منذ سنوات مضت، ومن خلال ممارسة العمل الحقوقى مع فريق مركز النديم، كنا كثيرا ما نتحدث عن حشد كتلة مؤثرة من الناس، كى نعطى دفعة لبعض مطالبنا، وأغلبها قضايا ومواضيع تتعلق بجريمة التعذيب؛ كالضغط من أجل محاسبة بعض الجناة مثلا، أو كمحاولة من محاولات رتق الثقوب القانونية التى تبيح إفلات الجلاد. كانت القضايا فى بعض الأحيان أكثر سخونة وإلحاحا، ربما كالمجاهدة من أجل إطلاق سراح مجنى عليه من غرفة احتجاز مغلقة، يكابد فيها صنوف الإهانة والانتهاك التى لا قِبَل لإنسان بتحملها.

 

فى كل مرة قررنا «الحشد»، ظهر العدد قليلا، يصعب إطلاق لفظة «حشد» عليه. وفى كل مرة دعونا للحشد، جاء الوضع النهائى مُخَيبا للآمال. عن نفسى، صرت بمرور الوقت أتحاشى الكلمة كلما كان الأمر جادا، لفرط ما ارتبطت فى ذهنى بمجموعة صغيرة من الأفراد، ربما لا تتعدى فى بعض الأحيان أصابع اليدين. مجموعة لا تتناسب مطلقا وحجم الأزمة أو فداحة الجرم الذى يُفتَرَض أن تواجهه. بعد حين، أصبحت كلمة «حشد» فى قاموسى الخاص وفى قاموس بعض الزملاء أيضا، أداة من أدوات المزاح والسخرية وأحيانا جلد الذات، رمزا للعجز عن الوصول إلى الناس العادية، التى لا تعمل بالسياسة ولا بالمنظمات والجمعيات وغيرها من كيانات المجتمع المدنى، ودفعها إلى التحرك والمشاركة.

 

●●●

يرى اللغويون أن الحشد هو جمع، مُتَّجِه فى أغلب الاحوال ناحية هدف واحد، والكلمة تحمل بالإضافة إلى ذلك إيحاء بالتعاون للوصول إلى هذا الهدف وتحقيقه، ويقال إن أكبر الحشود والتجمعات البشرية التى تتكرر بصفة دورية منتظمة على مستوى العالم، هى تلك المتجهة إلى المملكة العربية السعودية لأداء طقس الحج كل عام، إذ تتراوح ما بين اثنين وثلاثة ملايين شخص وربما تزيد على ذلك قليلا، وقد أغرت العملية التنظيمية لهذا العدد الهائل بعض الباحثين الغربيين بدراستها. ربما تكون جنازة الزعيم الكورى الشمالى كيم يونج آيل من أغرب التجمعات المليونية التى جرت فى نهاية عام 2011 ، إذ يقال إن حشودا مؤلفة من الشعب قد أُجبِرَت على حضورها، ذلك أن الرجل حكم بقبضة من حديد وأدار البلاد بأجهزة أمنية مرعبة، لم يجرؤ الناس فى وجودها على الامتناع عن تشييعه، وقد سار فى هذا على درب والده الذى شيعه الملايين فى 1994، وبدا أن ابنه كيم جونج أون الذى تولى الحكم سوف يسير على دربهما نفسه، حتى إنه أعدم فيما بعد أحد كبار ضباط الجيش الكوريين بقذيفة هاون، لأنه تناول الخمر فى فترة الحداد على أبيه المتوفى.

 

●●●

يمكن تقسيم الحشود الغفيرة التى شهدتها مصر فى العقود الماضية إلى نوعين متباينين؛ أولهما حشود الوداع، التى خرجت حزينة فى جنازات شخصيات محبوبة وقريبة من الوجدان الشعبى، كما فى جنازة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على سبيل المثال، وكذلك جنازتا أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، المطرب الذى لم يكتف الناس بتشييعه بل انتحر بعضهم فى يوم وفاته. النوع الثانى، يتمثل فى تلك الحشود المتوحدة على الغضب والمحتجة ضد السلطة، وقد شهدها عهد السادات فى يناير عام 1977، حيث خرجت صارخة قرارات ضد رفع الأسعار، ولم تهدأ حتى تم الرجوع عنها. مع الأسف، توقف هذا النوع من الحشود فى عهد مبارك، وخلت الساحة تماما إلا من استثنائين اثنين فقط خلال الثلاثين عاما، جموع الأمن المركزى الثائرة على سوء المعاملة فى فبراير عام 1986، ثم الجماهير التى خرجت من بيوتها فى مارس 2003 إبان الحرب الأمريكية على العراق. عدا هاتين المناسبتين أظن أن شوارعنا لم تستقبل حشودا تقدر بالآلاف أو حتى بالمئات، إلى أن جاءت بشائر عام 2011، حيث عادت الروح الجماعية الثائرة أخيرا، بحلول الخامس والعشرين من يناير، ولم تتوقف الحشود منذ ذاك الوقت؛ غاضبة وثائرة تارة، مُحتَفِلَة تارة، ومتجهة إلى صناديق الاقتراع تارة أخرى. النوع الأخير؛ وهو الحشود «التصويتية» إن جازت التسمية، لم يظهر أبدا فيما أعتقد على مدار ستين عاما كاملة، هى عمر مصر الجمهورية، الديمقراطية بين قوسين، وهو أمر مدهش يدعو، بغض النظر عن النتائج المرحلية، إلى كثير من التفاؤل، فالناس تحركت واحتشدت من تلقاء نفسها، وراحت تستميت فى الدفاع عن حقها وصوتها، مستعيدة الثقة فى قدرتها على التغيير والاختيار. تغير سريع ساحق، أثار حنق البعض، لكنه جعل آخرين يتقافزون فرحا.

 

●●●

للمرة الأولى منذ وعيت كلمة «الحشد»، أذكرها دون أن أعقبها بضحكة ساخرة، ودون أن أسمع بعدها تهكم الصديقات والأصدقاء، صار للكلمة فى أذنيّ وقعٌ جديدٌ رائعٌ.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات