الدولة العميقة ــ قد يجتاحكم شعور بالغموض حين تطالعون الإشارات الكثيرة لهذا المفهوم فى كتابات مفكرين وصحفيين مصريين. وقد تنتابكم أحاسيس القلق والخوف إزاء «كيان» لا ترونه مباشرة ولا تقدرون لعمقه على سبر أغواره بينما يقال لكم إنه يدير بمفرده شئون حياتكم وشئون المجتمع إلى حد كبير. وقد يسيطر على وعيكم خطر وجود مؤسسات أو أجهزة أو أطراف أو شبكات مصالح رسمية وغير رسمية تحول بينكم وبين ممارسة الحق فى الاختيار فى الشئون العامة وتفرض عليكم الامتثال ﻹرادة الحكم/ السلطة وتمنع مصر عن التحول الديمقراطى وتستعصى هى على محاسبتكم لها. إلا أنكم فى جميع الأحوال لا تعرفون تحديدا لا هوية ولا طبيعة هذه الدولة العميقة المشار إليها، ولا تنجحون على وجه الدقة فى معرفة الفاعلين بداخلها وأهدافهم وأدواتهم وممارساتهم.
والحقيقة أن مفهوم الدولة العميقة، وتعود تعريفاته الأولى فى أدبيات السياسة والحكومات المقارنة إلى تسعينيات القرن الماضى ويستخدم اليوم عادة لتحليل دور شبكات القوة والنفوذ داخل المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية وبعض الأجهزة الإدارية والمصالح الاقتصادية والمالية المتحالفة معها فى صياغة السياسة العامة ودفع أو تعويق الممارسة الديمقراطية، وثيق الصلة فى توظيفه المصرى بنقاشات المفكرين والأكاديميين والصحفيين فى تركيا حول فرص ومعوقات التحول الديمقراطى هناك والعلاقة بين المؤسسات الرسمية والمصالح الكبرى وبين النخب المشاركة فى الحياة السياسية. تصدر النقاشات التركية إلى الواجهة رؤية تحليلية تستند إلى 1) حضور شبكات غير رسمية داخل المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية وبعض الأجهزة الإدارية وعلاقات تحالف مع المصالح الكبرى تعمل باستمرار على تعويق التحول الديمقراطى، 2) الهوية غير الرسمية لهذه الشبكات والمصالح وطبيعة تمركزها داخل بنية الدولة تصعب من مهمة النخب السياسية إن أرادت مواجهتها، وفى المقابل تحفز إما من مسارات البحث عن، 3) الهوية غير الرسمية وطبيعة التمركز داخل بنية الدولة يضفيان على هذه الشبكات والمصالح صفة «العمق» ويصعبان من مهمة المواطن والمجتمع (تنظيماته الوسيطة ومجاله العام) بشأن إدراك أدوارها وأهدافها وأدواتها.
تتحول عناصر الرؤية التحليلية بشأن «الدولة العميقة» التى تصدرها النقاشات التركية لتصبح العناصر الحاكمة للتوظيف المصرى للمفهوم ثم تدخل على مضامينها تعديلات جوهرية تتعلق بالموقف من منظومة الحكم/ السلطة ومن قضايا التحول الديمقراطى ــ فموالاة الحكم تستخدم مفهوم الدولة العميقة للإشادة بالمؤسسات والأجهزة الرسمية وشبكات القوة غير الرسمية بداخلها لكونها تسهر على حماية كيان الدولة وتواجه المؤامرات.
أما ساكنو خانات المعارضة والبحث عن مسار تحول ديمقراطى منظم فيستدعون مفهوم الدولة العميقة لتحديد أسباب الإخفاق فى إدارة عمليات التحول خلال السنوات الماضية، ويلقون باللوم على الشبكات غير الرسمية والمصالح الكبرى المتحالفة معها التى لا تريد الخروج على السلطوية الحاكمة،.
قصور شديد، إذن، يغلف التوظيف المصرى لمفهوم الدولة العميقة من قبل مؤيدى منظومة الحكم/ السلطة أو معارضيها. وإذا ما أضفنا إلى هذا كون المفهوم نفسه (فى سياق النقاشات التركية وغيرها) لا يقدم الكثير تحليليا بعيدا عن الإشارة إلى أدوار شبكات القوة والنفوذ والمصالح غير الرسمية، وكونه يخيف المواطن من التفكير الرشيد فى أسباب ونتائج تقلبات الشئون العامة من حوله باستدعاء البعبع/ الكائن الأسطورى المسمى الدولة العميقة؛ يصبح من الأفضل الكف عن توظيف مفهوم يغيب أكثر مما يفصح.
غدًا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.