قصص ثورية طبية حزينة - محمد أبو الغيط - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 5:29 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قصص ثورية طبية حزينة

نشر فى : الخميس 23 يناير 2014 - 6:45 م | آخر تحديث : الخميس 23 يناير 2014 - 11:26 م

"لكلٍ غرناطته" هو عنوان مقال بديع للمبدعة الدكتورة رضوى عاشور، تتحدث فيه عن اختلاف تناول الأدباء العرب والأجانب لقصة سقوط غرناطة.. كل منهم رأى في نفس القصة زاوية مختلفة تمامًا تعكس تجربته الشخصية.

وعلى دربها أقول إن لكلٍّ قصته الخاصة جدًّا عن الثورة، لكلٍّ ثورته.

على هامش صورة الميدان الواسع وانتصاراته وهزائمه الكبيرة، يوجد عدد لا نهائي من الميادين الشخصية الصغيرة، بها انتصارات وهزائم خاصة قد لا تمثل كل منها للمسار الكبير أي شيء، لكن تجمعها هو ما يصنع كل شيء.

اليوم بينما تكاد الثورة تتم عامها الثالث، اخترت أن أحدثكم عن ميادين صغيرة، عشت فيها أثناء عملي الطبي، الذي مررت خلاله على 3 مستشفيات حكومية ووحدتين ريفيتين، في محافظات أسيوط والقاهرة والقليوبية.

 

انفجارات قاتلة

"أنا لو طلعت من هنا بطني هتفرقع وأموت" يقولها الرجل المسن بأنفاس مكتومة، بينما يشير لبطنه المنتفخة. كان يعاني حالة انسداد تام في الأمعاء، وتأخر 3 أيام في القدوم للمستشفى، وهو ما يعني أنه لا يبالغ. كل دقيقة تأخير تقربه من الموت حرفيًّا.

كان أخصائي الجراحة الموجود رجلًا عظيمًا، اهتم بإخلاص حقيقي وقرر أن يجري العملية فورًا لو توافر سرير واحد في أي قسم بالمستشفى كلها.

عمال وممرضون يجرون في طرقات المستشفى الكبيرة. سرير واحد لله يا محسنين! سرير واحد في الباطنة، أو المسالك، أو العظام، أو أي مكان... ثم لا شيء.

اعتذرنا للرجل، خرج ليبحث عن مستشفى أخرى بينما يردد "أنا رايح أموت"، وهو ما أظن أنه حدث بالفعل.

انفجارات البطن تقتل، كالتفجيرات الإرهابية تمامًا، فلماذا لا يهتمون بها بنفس القدر؟

 

الحكومة الله يعمر بيتها

السيدة العجوز تتألم مع كل خطوة. تسمع بأذنها أصوات عظامها كأنها تتكسر على بعضها. لا يمكنها أن تثني مفاصل ركبها أو ظهرها.

حالة "خشونة مفاصل" شائعة في السن الكبير، وعلاجها مرتفع الثمن ولا يُصرف في الوحدات الصحية، وهذه الحالة تحديدًا أسوأ بوجود نسبة أملاح عالية تزيد من مشاكل المفاصل، بالإضافة لمغص كلوي يجعلها تبكي من ألم جنبها. علاج الأملاح بدوره غير موجود.

طلبت مني ألا أكتب لها أي علاج من الخارج لأنها "ست غلبانة". أخبرتها أني سأكتب فقط علاج الأملاح، أكياس فوار العلبة الكاملة منه ب 4 جنيهات فقط. قالت إنها لا تملك هذا المبلغ. كانت تبكي.

قالت إن زوجها متوفى وترعى ابنًا مريضًا، وأنها تقبض "معاشًا اجتماعيًّا" 200 جنيه، وإن الحكومة - الله يعمر بيتها - رفعت المعاش بدءًا من هذا الشهر إلى 225 جنيهًا.

لا إراديًّا شعرت بالغيظ من انخفاض سقفها، تذكرت تعبير أحمد خالد توفيق عمن يرون أن أفضل معاملة ممكنة هي ألا يجلدوا بالسياط.

قلت لها "بس ده قليل أوي يا حاجة، بتدعيلهم ليه؟"، فقالت "انت يا بني ما شفتش زمان قبل الثورة دي، دول كانو 80 جنيه بس!"

 

أسباب أخرى للخرس

أشار الشاب لي بيده فتصورت في البداية أنه أخرس، ثم فهمت أنه لا يستطيع الحديث لأن مفصل الفك محشور، مما يجبره على إبقاء فمه مفتوحًا!

بينما ننتظر أخصائي الجراحة قال لي بحروف مشوهة إنه كان يقود توك توك، ورفض ركوب أمين شرطة معه مجانًا، فضربه بعنف أدى إلى ما هو عليه، بالإضافة لجرح شفته ووجهه وكسر أسنانه.

قلت له بحماس إني سأعطيه تقريرًا طبيًّا ليذهب به إلى النيابة أو إدارة تفتيش الشرطة، "لازم ما تسيبش حقك يضيع". هز رأسه بعنف بما يعني الرفض التام.

أعدت التفكير. هدأ حماسي. صمتت وابتعدت.


كل الأطفال 6 على 6

"إحنا كتبنا اسمك في كشف الجودة يا دكتور، وكتبنا إننا عملنا اجتماع امبارح، وإنك ناقشت نتايج حملة التطعيم!"

يسأل زميلي مندهشًا "بس أنا مش فاهم ده إيه أصلًا؟"، فيأتيه الرد "مادام بقيت مدير الوحدة يبقى أنت عضو في اجتماعات الجودة، وهتمضي على الورق زي اللي قبلك، وهتاخد مكافئة الجودة زي اللي قبلك".

وهكذا تتولى البيروقراطية المصرية بنجاح تحويل نظام "الجودة" في كل مكان سواء في وزارة الصحة أو الجامعات إلى شكل فارغ، أوراق تُكتب وخانات تُسدد، دون أي علاقة بالجودة الغائبة.

ما الفارق لو تولى الحكم أي نظام، ما دامت أي سياسات وقرارات سيكون تنفيذها في النهاية مسؤولية مدام فلانة والأستاذ فلان بنفس الأسلوب؟

ما ينطبق على أوراق الجودة ينطبق على أوراق أخرى بلا نهاية، أوراق الكشف الطبي على التلاميذ مثلًا.

كان ضمن مهمات زميلي في وحدة صحية ما أن تأتيه مئات من الشهادات الخاصة بتلاميذ المدارس الابتدائية القريبة، وعليه أن يملأ خاناتها كلها تفصيليًّا بما يفيد أن هذا الطفل - الذي لم يره أبدًا - لائق للمدرسة، ثم إمضاء، ثم ختم النسر المقدس.

شبكات الفساد تؤمن ظهرها دائماً بقاعدتين مقدستين:

القاعدة الأولى: معاهدة الصمت

الجميع يعلم، الأطباء والممرضات والموظفين، وأهالي تلاميذ المدرسة والمدرسين، ومفتشي وزارة الصحة، الجميع يعلم أن الطبيب لم ير هؤلاء الأطفال، والجميع يتجاهل ما دام الورق سليمًا.

القاعدة الثانية: لا للأفورة!

لو أن هناك تلميذًا به مشكلة واضحة جدًّا، مثلا بتر أحد أطرافه في حادث أو شلل، حينها فقط سيتم توضيح ذلك في الورقة القادمة من المدرسة، وسيثبتها زميلي في الورق. لو مر شيء كهذا وكُشف سيتم التضحية بالزميل فورًا، ليس لأنه قَصًّر في عمله، بل لأنه قَصًّر في التمثيل الذي اتفق الجميع على إتقانه!

نفس الوضع ينطبق على ملفات المرضى التي يُفترض نظريًّا أن يتم تحديثها ببيانات دقيقة في كل زيارة للمريض.

ونفس الوضع ينطبق قبل كل ذلك على مؤامرة "الدفتر" الكبرى، والتي يشترك فيها الغالبية الساحقة من ملايين موظفي الدولة. عشت هذه القصة في كل مكان ذهبت إليه، وسمعتها من كل زملاء دراستي في الطب وغيره، ممن تم تعيينهم مهندسي ري إلى الصيادلة إلى المحاسبين.

تنص مؤامرة الدفتر الكبرى على إعادة توزيع العمالة الزائدة والبطالة المقنعة، بما يضمن أن "الشغل ماشي" بينما يكتفي كل شخص بحضور عدد معين من الأيام، ويوقع الباقون في الدفتر بحضوره في غيرها.

القاعدتان سالفتا الذكر مطبقتان بصرامة.

يتم توقيع الحضور للغائب مع حيلة إدارية ما مثل ورقة "خط سير" توضع في الدفتر بأن فلان ذهب في مأمورية كذا، لو لم يأت تفتيش سيتم إزالة الورقة وإمضاء انصراف عادي، أما لو أتى التفتيش فسيتم إثبات خط السير.

المفتش يعرف جيدًّا أن خط السير وهمي، وأن هذا الشخص لم يأت اليوم، لكنه يقبل الورق المثبت - راجع القاعدة الأولى.

أما لو غاب من عليه الحضور في هذا اليوم، وتعطل العمل، فسيعاقب المفتش الجميع بكل حزم - راجع القاعدة الثانية.

أقف بجوار زميلي بينما يملأ الشهادات تلو الشهادات بآلية. في خانات قوة الإبصار بأعلى الورقة يكتب أن كل التلاميذ نظرهم 6 على 6.

الفتاة ذات الضفائر والنظارات الطفولية وردية اللون نظرها 6 على 6. الطفل ذو الأسنان الناقصة والنظارات الكبيرة على وجهه نظره 6 على 6.

يجب أن تستمر التمثيلية، نمثل أننا نعالجهم، يمثلون أنهم آخذون علاجًا، نمثل أننا نسجل البيانات بدقة، يمثلون أنهم يُشفوا... للآسف هذا الجزء الأخير من المسرحية هو الوحيد الذي لا ينتهي بنفس النجاح في كل مرة.

 

الشعب يريد ...

"ما تقطعش عيشنا يا دكتور" يقول فني المعمل بمزيج عجيب من الصرامة والتوسل، بينما يطلب من زميلي أن يطلب التحاليل لعدد أكبر من الحالات.

"العيش" المقصود هنا هو 3 - 5 جنيه يأخذها فني المعمل كرسوم أو "شاي" له على كل تحليل للحوامل (لأنهن الحالات الأكثر استعدادًا للدفع). الموظفة المسؤولة عن شهادات الميلاد لها الشاي الخاص بها أيضًا وهو 10 جنيهات، أما موظفو أمن المستشفى فكلهم يأخذون أموالًا مقابل السماح بدخول مرافقي المرضى في غير وقت الزيارات، مما يجعل المستشفى في حالة فوضى شبه دائمة.

أشعر بالإدانة الحادة لهذا الفساد، ثم أنظر للقميص الرخيص القديم الذي يرتديه فني المعمل، فأتردد. يخبرني مدير المستشفى أن موظفي الأمن عمالة مؤقتة مرتباتهم 450 جنيهًا فأتردد أكثر.

لماذا استسلم زميلي للإمضاء على ورق الجودة؟

مشكلة كونك ترسًا في هذا النوع من الفساد أنه لا يعتمد على اختيارك الشخصي، لكن الأمر متعلق بموظفين آخرين يعتبرون هذا "أكل عيش" مهمًّا للغاية لبيوتهم التي تحتاج كل جنيه.

وهو نفس ما ينطبق على الحضور الوهمي، كل من يحضر 3 أيام يعمل في الـ3 أيام الأخرى عملًا آخر؛ لأن الجميع لا يكفيه دخله، لأن الجميع "عنده عيال"، لأن الجميع خائف... لكن هذا يجعل الجميع ينهش الجميع في النهاية.

وبداية التسامح مع فساد الأصغر الذي يحمل تبريراته يصل إلى فساد الأكبر. ذلك الطبيب مدير الوحدة فاقد الضمير الذي يتعمد التلكؤ في الكشف المجاني، وتعقيد إجراءاته، ثم يبدأ "الكشف الخصوصي" منذ الساعة 11 صباحًا بينما من المفترض قانونًا أن يستمر الكشف المجاني حتى 2 ظهرًا.

في كل مرة أقترب من شبكات الفساد والبيروقراطية أتذكر هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام"، كيف يسقط والشعب نفسه جزء منه، والجميع جناة وضحايا مساكين في نفس الوقت؟!

وإذا كان هذا ما يحدث في أصغر مكان، فماذا يحدث في أكبر الأماكن؟

لكني أعود لأقول إن المساواة غير عادلة بين فني المعمل الذي يطمع في 3 جنيهات، وبين رجل الأعمال الذي يكسب 3 مليارات. "كلنا فاسدون" تصبح عبارة مضللة للغاية.

 

والشعب يريد أيضًا ...

قالت لي موظفة مكتب الصحة بالقرية بينما تجهز شهادات الوفاة لأوقع عليها "وأنت طبعًا يا دكتور هتروح تقول نعم في الاستفتاء؟". صدمتها بأني لن أذهب أو سأذهب للتصويت بلا. رفعت رأسها في قلق حقيقي "أنت منهم؟؟ أنت إخوان يا دكتور؟" قلت لها إني لست "منهم"، فقالت "كفاية بقى، عايزين البلد تمشي، تعبنا، انتو عايزين إيه تاني؟ طيب عايزين مين يبقى الريس غير السيسي؟".

في السابق كان يمكن أن أدخل مناقشة حماسية شبيهة بالساعات، أما الآن فاكتفيت بعبارة إنهاء أي حوار مصري "ربنا يولي من يصلح".

هذه الموظفة تحديدًا هي الأقدم هنا، تعاملني كابنها، تعرف كل أهل البلد، اصطحبتني إلى داخل منطقة العزب الغامضة حيث يعيش الناس في أماكن لن تتصورها أبدًا إلا لو رأيتها. برك آسنة تسبح فوقها القمامة والعفن، وفي قلب العَفَن تظهر البيوت.

كل الموظفين، وكل الأهالي الذين تكلمت معهم، قالوا نعم لنفس الأسباب - لم يقرأ أحد الدستور طبعًا - ويؤيدون السيسي، ومن قبل قالوا نعم لدستور الإخوان وانتخبوا مرسي .. أ­و أنهم لا يعلمون أي شيء عن أي شيء، ولم يشاركوا مطلقًا. نصف الشعب المصري لم يصوت في أي استفتاء أبدًا.

وهناك وجود ما للإخوان، بالتأكيد عبارة "سيسي قاتل .. مرسي رئيسي" المكتوبة على الجدران الداخلية المتسخة لم يكتبها غرباء.

أفكر طيلة الوقت، أين "نحن" من هؤلاء الناس؟

من السهل جلد الذات على طريقة "إحنا مش بننزل للناس"، كما أن من السهل إيجاد ألف عذر وسبب منطقي جداً، وفي النهاية تبقى الأسئلة: هل يمكن أن نناضل ضد إرادة الشعب؟ هل سنهتف مثل الإخوان في مظاهرة ما "هنحرركم غصب عنكم؟" من هو "الشعب" أصلًا؟

 

الملائكة تفقد هالات النور

لا يمكنني أن أحصي كم مرة التقيت د. منى مينا مع د. عمرو الشورى ود. محمد شفيق، ولا يمكنني أن أحصي كم مرة شعرت وأنا معهم أن معركة الأطباء تسير في الطريق الصحيح.

الثورة الكبيرة تضطرب، تفتقد التنظيم والرمز والأهداف وكل شيء، بينما الثورة الصغيرة في النقابة تتقدم ببطء وبثقة.

منذ أشهر بدأت بعض الأقاويل تصلني، لكن ظل الموضوع في إطار خلاف وجهات نظر عادي.

فجأة أجد أمامي خبر فصل حركة أطباء بلا حقوق لبعض أنشط أعضائها، ومنهم عمرو وشفيق.

أبادر بالتطوع لتغطية الموضوع للشروق، لكن ما كان يحركني قبل العمل الصحفي هو السؤال الشخصي: ليه؟

أكلم الدكتورة منى، وأكلم عمرو الشورى، وأقرأ تدوينات شفيق.

تفاصيل حزينة كثيرة، لا تغير حقيقة أن مرآة الحقيقة الناصعة التي كانوا يحملونها جميعًا انكسرت، وأخذ كل منهم جزءًا منها.

لا أعرف إن كان كل هذا، كل القصص الواردة بالمقال، هي طبيعة الحياة في أي بلد بظروفنا، وكل انتكاسات الثورة هي الطبيعة التاريخية للثورات، ولشعب بصفات شعبنا، أم أننا منحطون بما يفيض.

أعرف فقط أن كل هذا حزين للغاية، حزين أن تهبط الآمال العظيمة إلى اللاشيء، "كنا طبيعيين لو كانت نجوم سمائنا أعلى قليلًا من حجارة بئرنا".

أعرف فقط بعد كل ما حدث أن الثورة ليست خيارًا بالنسبة لنا، نستمر لا حزنًا ولا فرحًا، ولا يأسًا ولا أملًا، فقط لأن هذا ما نشعر بالمسؤولية عنه، ولأن هذا ما بيدنا، ولأن هذا هو الخيار المنطقي الوحيد، حتى لو كان غير واقعي، لأن المنطق يقول إنه بعد كل ما تغير في هذه السنوات الثلاث يمكن أن يحدث أي شيء، من أسوأ الاحتمالات إلى أفضلها.

لأن المنطق يرفض إمكانية استمرار الواقع بهذا الشكل.

سنخوض معاركنا معهم.


روابط ذات صلة:

لكلٍ غرناطته

منى مينا: فكرت في الاستقالة.. ومعارضون: المشكلة في مجلس النقابة

حركة أطباء بلا حقوق «تصحح مسارها» بفصل أعضائها.. والقائمة والإخوان أبرز أسباب الخلاف

محمد أبو الغيط طبيب ومدون مصرى
التعليقات