رسالة إلى صديقى الگولونيل - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 6:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رسالة إلى صديقى الگولونيل

نشر فى : الخميس 23 يناير 2014 - 4:30 ص | آخر تحديث : الخميس 23 يناير 2014 - 4:30 ص

أبدأ هى القصَّة الأزلية، تعيد وتكرر نفسها: أناس يؤمنون بقضية فيشقون ويضُّحون وقد يموتون، ثم يتبعهم أناس أخر من المتفرٍّجين يحصدون ويأكلون ما زرعه أولئك المضحُّون.

تعود بى الذاكرة إليك يا كولونيل أورليانو بونديا، يا بطل رواية الكاتب الكولومبى جبرييل جارسيا ماركيز الشهيرة: «مائة عام من العزلة». أتخّيلك وأنت مُطالبُّ، بعد عشرين سنة من عشرات المعارك التى خضتها أنت والفقراء والمثقفون من شعبك فى سبيل شعارت الحرية والعدالة والكرامة، بعد أن مات الألوف وتركوا الأرامل واليتامى. بعد كل ذلك وجدت نفسك مطالبا بأن توقّع على وثيقة التنازل عن كل الشعارات التى أعطيت أنت ورفاقك عشرين سنة من حياتكم لتحقيقها.

سألت يا صديقى الكولونيل وفد السياسيين الانتهازيين والمحامين المخادعين الذين جادوا لأخذ توقيعك: لماذا هذا بعد كل تلك التضحيات؟ وجاءك الجواب كشراب الحنظل بأن حزب الأحرار الذى دعا للثورة قد اتفق مع حزب المحافظين الذى قاوم الثورة على تقاسم السلطة بشرط التنازل عن شعارات الثورة.

بعدها يا صديقى الكولونيل سألت سؤال البراءة والعفّة والصدق مع النفس: أمن أجل السلطة إذن كانت ثورتنا؟ ووقّعت يا بطل الوطن والدموع تملأ خياشيمك وانسحبت إلى عزلتك الطويلة.

اليوم، وأنت فى قبرك دعنى أريح روحك التى مازالت تتعذّب بأحزان ذلك العبث، وأخبرك بأن ما جرى لك ولرفاقك يحدث أمام أعيننا ألف مرة فى طول وعرض أرض ثورات وحراكات الربيع العربى.

فالنخُّاسون الذين باعوك وباعوا رفاقك وثورتكم ليتربعوا على كراسى الحكم، والليبراليون الذين ناصروا ثورتكم وشعاراتكم ثمُ مالبثوا أن شكَّكوا الناس فى جدواها، والمحافظون من رجالات نظام الاستبداد والنَّهب والسرقات الذين خرجوا من الباب ليدخلوا من الشَّباك ونجحوا فى غرس الشك والبلبلة فى عقول البسطاء من شعبكم باسم المحافظة على الأمن والسلم الأهلى وعودة السوّاح.. جميع هؤلاء يا صديقى الكولونيل لهم من يماثلهم، بل ويبزٌّهم فى انتهازيته وكذبه، فى أرض ثورات وحراكات ربيع العرب.

يوميا نراهم يتربّعون على شاشات التليفزيون ويلقون المواعظ ويتكلمون عن واقعية الذل وعيش الجرذان، يوميا يطالبون بموت الأحلام والآمال ووئد شعارات البراءة والعفّة وحقوق العباد، يوميا يساومون مع هذا المستبد أو تلك الجهة الأجنبية ليباركوا لهم اقتسام السلطة، يوميا يجرى إقناعنا بأن الدماء قد روت تربة العرب والألوف قد دخلوا السجون وعذبوا والأمهات بكين على استباحة أولادهم وبناتهم فقط من أجل أن يقتسم البعض السلطة مع سراق السلطة. ولذلك ياصديقى الكولونيل فإنك لو بعثت حيّا فإنك لن تشاهد ولن تسمع فى أرض مصر وسوريا وتونس والعراق واليمن وفى كثير من بقاع أرض العرب التى تموج بالأحداث وبالهيجان، لن تسمع إلا الحديث عن السلطة، لكأن حناجر الملايين لم تصرخ منذ ثلاث سنوات بالحرية والكرامة والعدالة وإنّما أرادت فقط استبدال سلطة تلبس قناعا بسلطة تلبس قناعا آخر.

فلا تحزن يا صديقى المسجى فى قبر الصّمت، بعد عزلة الانكسار والذهول أمام بلادة الإنسان، فإن قدر الثوار الأتقياء الأنقياء أن يعدموا أو ينتهوا فى أقبية العزلة الصامتة، بينما يغنى ويرقص أدعياء الثورات امام الحشود المخدوعة وهو يحتفلون بالنّصر الكاذب.

•••

لكن هل حقا أن قدر الإنسان أن يرسم ثم يمحو، أن يثور ثم يستسلم، أن يحلم ثم يصحو؟ إنه قدر بائس لا يمكن أن تباركه السماء ولا أن تقبله أرواح الذين ضحُّوا وماتوا، وهى تتعذب بانتظار إنصافها وإكرام حياتها وموتها.

أذكر يا صديقى أنك بعد الفشل الأول حاولت أن تشعل نيران الثورة من جديد لكن لم يستجب المتعبون المستكينون لحياة الزبونية. وأعلم أيضا ياصديقى بأن شباب ثورات وحراكات الربيع العربى لن يقبلوا مصيرك فى العزلة وفى الموت البائس، إن للثورات ألف طريق وطريق وللثوار ألف مصير ومصير. لقد يئست ومتّ موتة الانكسار وسيتفاءل آخرون فيعيشون عيشة الكبرياء والانتصار.

مفكر عربى من البحرين

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات