التبعية من الإجبار إلى الاختيار - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 2:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التبعية من الإجبار إلى الاختيار

نشر فى : الإثنين 23 مارس 2015 - 10:10 ص | آخر تحديث : الإثنين 23 مارس 2015 - 10:10 ص

حينما قامت ثورة 23 يوليو 1952 كان العالم فى طريق الانتقال من الاستعمار السافر القائم على الاحتلال إلى الاستعمار الجديد القائم على فرض آليات التبعية الذى يضمن للدول الرأسمالية مكاسب الاستعمار من استغلال موارد الدول التى تخلفت عن اللحاق بركب التصنيع وإجبارها على فتح أسواقها أمام منتجاتها المصنعة، دون تحمل أعباء متطلبات الاحتلال العسكرية والإدارية. وكان على الثورة أن تواجه الصيغتين معا حيث أصرت بريطانيا على استمرار سيطرتها على قواعدها فى منطقة قناة السويس، وحرصت أمريكا وشريكاتها الأوروبية على ضمها لأحلاف توظفها لترجيح موقفها فى الحرب الباردة من المنظومة الاشتراكية وفى الوقت نفسه حرمانها من مكاسب التبادل التجارى معها. فانضمت مصر إلى مجموعة عدم انحياز تضم دولا تتبع حيادا إيجابيا، لا شرقية ولا غربية، وتتولى عملية دخول مرحلة التصنيع، ممثلة نموذجا تحتذيه الدول حديثة الاستقلال للتنمية بالاعتماد على الذات فتجهض مشروع التبعية فى مهده. فدبرت أمريكا حرب 1967 وحرصت على حصد إسرائيل كل مكاسبها حتى تفقد القومية العربية سندها الرئيسى فى مواصلة سعى الدول العربية تعزيز مسيرتها على طريق التنمية بالاعتماد الجماعى على النفس.

وحتى لا تعود جذوة التنمية المستقلة للاشتعال لجأت الدول الاستعمارية إلى دعم نظم محلية تستمد بقاءها من العمل وكيلا لها فى تكريس التبعية. وصادف ذلك هوى لدى السادات فأحال انتصار أكتوبر 1973 إلى انكسار وتخلى عن الهدف من ثورة يوليو إلى تحقيق سلام يكفل الأمن لا لمصر بل لإسرائيل تاركا لها حرية الحركة فى الوطن العربى لتحقق مشروعها بإقامة إسرائيل دولتها الكبرى، فانصاع لنصائح صديقه الصهيونى هنرى كيسنجر مسلّما أمريكا الورقة التى بيده لتضيفها إلى الـ99 التى ادعى أنها تملكها. وعندما عاد من لقاء مع كارتر فى مارس 1977 معلنا أنه وعده بإمكانية التوصل لحل للمفاوضات الجارية مع إسرائيل، لم يدر بالا لدراسة طالبت معهد التخطيط بإعدادها حول التعويضات التى كان عليها تقديمها عن الخسائر التى كبدتنا إياها بالحروب التى زجتنا فيها، بل حمّل الشعب المصرى كلفة الخروج مما سماه «تحت الصفر» مكتفيا بمعونة تمسكنا بها أمريكا من رقبتنا، معلنا انتقالنا على النحو الذى بينه عادل حسين فى 1981 فى كتابه «الاقتصاد المصرى من الاستقلال إلى التبعية»، وهو انتقال أغلق به باب تنمية مستقلة محققة لعدالة اجتماعية.

وكرس من بعده مبارك مسيرة التبعية، وأجاب المصريين المقيمين فى الولايات المتحدة على اعتراضهم على الاهتمام بجولات خارجية بدلا من تخفيف معاناة الشعب الذى ابتلى به «أنا هنا علشان أؤكلكم». وليس أدل على مدى قصوره الذهنى من أنه كان يردد أن مصر شعبها غنى وحكومتها فقيرة، مدللا بذلك على فشل سياسة حزبه الل اوطنى الاقتصادية ومتجاهلا أن الشعب الغنى ليس بحاجة لحكومة توفر له لقمة العيش. وخاطبته آنذاك بمقال فى جريدة العربى بعنوان «أعد لنا وطننا سيدى الرئيس» ولكنه مضى فى تعميق مسعى النظام للتبعية تحت الراية الأمريكية فكان لابد من ثورة ينفض بها الشعب رداءها.

•••

غير أن حظ مصر العاثر شاء أن يتولى مرسى الحكم لينفذ توجيه الجماعة التى سعت إلى السيطرة على مصير مصر من خلاله، بأن يجعل مصر ذيلا لقوى خارجية. فواصل خطى التبعية بزيارة لروسيا أضافت إلى ما لحق مصر من مهانة تصورها خياله المحدود انتصارا يعتّم على مباركة أمريكا للكارثة التى ابتليت بها مصر بتوليه الحكم ليكون أداة لاستكمال مشروعها الذى أرادت به أن يكون الشرق الأوسط الكبير الجديد شرقا أوسطا ذليلا تهيمن عليه الصهيونية التى تتحكم فيها. وأراد أن يمضى قدما فى التبعية بتذيل مجموعة بريكس، وهو ما يدل على جهل فاضح بطبيعة هذه المجموعة والشروط التى تلزم لعضويتها، وهى أن تكون الدولة العضو قد أعادت ترتيب شؤونها الداخلية بالاعتماد على الذات ومن كبر الحجم بحيث تتوافر لها القدرة على حرية الحركة فى النظام العالمى لا أن تسعى لتعزيز مكانتها بأسلوب الدول الرأسمالية الكبرى القائم على فرض الهيمنة والتبعية على النمط الأمريكى على الدول الأضعف. وخرج من مسعاه بخفّى حنين.

ووراء ستار التقارب بين النظم الإسلامية انتهز أردوغان الفرصة لكى ينقذ تركيا من المأزق الذى واجهه بعد أن ضاقت الفرص أمام مواصلة النمو ودخلت تركيا مرحلة من الركود وتعذرت عليها فرص الخروج من دوامة التراجع التى باتت تهددها كدولة وتسقط نظامه الذى تصاعدت المقاومة الشعبية له. فبالرغم من أن تركيا تشبه مصر من حيث الموقع المفصلى لكل منهما: فتركيا تربط بين أوروبا وآسيا وتطل على أفريقيا من خلال البحر الأبيض، بينما مصر تربط بين أفريقيا وآسيا وتطل على أوروبا من خلال البحر الأبيض إلا أنه يفوق فى أهميته الإستراتيجية أهمية تركيا، وهو ما أغفله مرسى وإخوانه بجهلهم المطبق تاركين لأردوغان أن يستغله لإخراج تركيا من مأزقها بجعل مصر معبرا إلى أسواق تعوضها عن ضيق الأسواق المجاورة أمامها إلى أسواق واعدة فى الجنوب، بطرح مشروع أسميته فى حينه «الشرق أفريقي». وبدلا من أن تستغل مصر هذا الموقع لتقود فيه المجموعة العربية الآسيوية فى إحداث ترابط بين الشمال الأوروبى والجنوب الأفريقى على النحو الذى سبق أن طرحته فى دراسة مقدمة إلى المؤتمر الاقتصادى العربى الأول، الكويت فبراير 2008، استمر مرسى فى منهجه المكرس للتبعية.. هذه المرة لدولة تعانى من ضعف وضعها الدولى، مواصلا التقهقر حتى فى التبعية.

ولذلك فقد أردوغان صوابه عندما عدل الشعب المصرى مسار ثورته فى 30 يونيو ونفض عنه رداء التبعية ومن ورائه نظاما يستغل الشعارات الدينية مصورا أن المخرج هو إمبراطورية إسلامية تذوب فيها الدولة المصرية، لاجتياز مرحلة توقف مسيرة التاريخ عند النقطة التى تهاوى فيها الرجل المريض الذى أصاب مفهوم الخلافة بالشلل فى أوائل القرن العشرين. وكان من الطبيعى أن يجن جنون أردوغان بفقد السلة التى وضع فيها كل آماله فى البقاء على رأس دولة بدأ مجتمعها يلفظه بعد أن فقد فرصه فى مواصلة ركب التقدم الذى تسارعت حركته نحو مستقبل يعد بتقدم متعدد الجوانب. ولم يعد أمام إخوان مرسى سوى عمليات تخريب فى الداخل وتشويه صورة مصر فى الخارج وهو ما رحبت به القوى الخارجية التى عملت على تحويل الربيع العربى إلى شتاء شرق أوسطى.

•••

لقد أثبتت الخطوات الحكيمة التى قاد بها السيسى السفينة لتنفض عن مصر عباءة التدهور الذى ينتشر منها فى محيطها الإقليمى، وجاء نجاح المؤتمر الاقتصادى الذى لا ينكره إلا أحمق أو جاهل ليوضح أن مصلحة تلك القوى، المعادية أو المتشككة، الحقيقية هى دولة مصرية قوية ومستقرة ومتقدمة محليا تربطها علاقات متكافئة مع باقى العالم، خاصة وأنها بدأت تدرك مدى الخطأ الذى وقعت فيه بخلق فرصة لإرهاب أصبح تهديده لها هى ذاتها وشيكا. وإذا كان وزير الخارجية الأمريكية قد أعلن أن بلده تدعم جهود مصر لشغل موقع يساعد على تحطيم تنظيمات إرهابية باتت لا تجد سبيلا للتعامل معه.. فإن هذا لا يعنى أنها غيرت سياستها الخارجية، بل أنها تسعى لمجاراة غالبية المجتمع الدولى لتتلافى أخطاء أوقعتها فيها سياسة أوباما الحمقاء، وهذا بحد ذّاته كسب كبير بثمن بخس. وأصبح علينا أن نبادر بصياغة إستراتيجية قومية تكسر التبعية وتحقق تنمية تردها إلى مركزها اللائق بها على المستويين الإقليمى والدولى.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات