بل دفاعا عن «حرية» الأزهر - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:59 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بل دفاعا عن «حرية» الأزهر

نشر فى : الأحد 23 أبريل 2017 - 8:10 ص | آخر تحديث : الأحد 23 أبريل 2017 - 8:33 ص

لأنها «بلد الأزهر» لا غيره، اختار أوباما أن يتحدث إلى العالم الإسلامي (يونيو ٢٠٠٩) من عاصمتها. ولأنها «بلد الأزهر» لا غيره، يجيء بابا الفاتيكان إليها في وقت يبحث العالم فيه عن «حكمة»، تنقذه من الغرق في بحر دماء روافده كثيرة ومعقدة ومتداخلة. 

يأتي هذا، وذاك. أما نحن، فيبدو أن لدينا «للأسف» من لا يعرف قيمة الأزهر

ـــــــــــــــــــــــــ

كما استسهل البعض، دون دراسة للتاريخ أن يضع الأزهر في قفص الاتهام. كان هناك من انتهزها فرصة للنيل من «استقلال» لا يطيقونه

بداية، وحتى لا يأخذ البعض هذا المقال إلى خانة «الاستقطاب» الثنائية المتعصبة المقيتة، فربما نكون بحاجة إلى إعادة التأكيد على أنه من نافلة القول أن لا قداسة لهذا أو ذاك. وأن لا ضير في أن ننتقد شيخ الأزهر أو أيا من علمائه، أو بالأحرى أن نعترض أو نناقش ما يتخذه هذا أو ذاك من مواقف، أو يطرحه من أفكار أو آراء في مسألة دنيوية أو فقهية. فعمر (رضي الله عنه) أخطأ، وأصابت امرأة. ولكني أحسب أن هذا بعيد كل البعد عن ما يحدث الآن، وأن ما نراه من حملة تبدو «ممنهجة»، لا يمت بصلة لما كان بين الشافعي ومالك من خلاف في هذه المسألة أو تلك. كما أنه لا يندرج بحال تحت عنوان «التفكير النقدي» الصحي، والمطلوب. إذ بتنا جميعا نعرف أن وراء الأكمة ما وراءها. كما نعرف أن محاولة النيل من «استقلال» الأزهر (الباقي) سبقها العصف أو العبث بكل استقلال عرفناه لهذه الهيئة أو تلك، قضائية كانت أو رقابية أو إعلامية.. والحبل على الجرار.

لا يمكن لأي متابع لما يبدو هجوما «ممنهجا» على الأزهر وشيخه، أن يتجاهل أن البداية كانت مع ما دار من لغط بداية العام حول قضية «الطلاق الشفوي»، والحاصل، إن أحسنا التوصيف، أن بيان الأزهر، الذي أثار الجدل يومها كان، بالتعريف بشأن قضية «فقهية / لا سياسية»، إلا أن معظم (ولا أقول كل) من تصدى يومها للنيل من المؤسسة العريقة وشيوخها الأجلاء، كانت أسبابهم في حقيقتها «سياسية / لا فقهية». خاصة مع ما بدا في بيان الأزهر (القاطع المهذب) من خروج عن ما بات مألوفا من «سمع وطاعة»، وامتثال لثقافة «وما أريكم إلا ما أرى». 

يومها وضع الأزهر بموقفه وببيانه «القاطع» بشأن قضية فقهية خطا واضحا بين الدين والسياسة، أو بالأحرى بين ثوابت الدين، ومواءمات السياسة. وكان من اللافت والغريب أن كثيرين من الذين ينادون كل يوم بوضع مسافة بين الدين والسياسة، لم يعجبهم موقف الأزهر (!)

لن أخوض هنا في أمور فقهية تتصل بأحكام الزواج والطلاق، فأهل الفقه أدرى بالحكم الشرعي. والله تعالى أعلم بحكمه وحكمته. ولكنني أنبه فقط إلى حقيقة أن أرقام الطلاق المرتفعة التي دق اللواء أبوبكر الجندي رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء مشكورا جرس إنذارها هي أرقام عقود الطلاق «الموثقة»، لا تلك الشفاهية (وإلا ما علم بها الجندي، وما رصدتها إحصاءاته). ثم لعله من المحزن أن الحديث في الموضوع صاحبه «خروج عن الموضوع» فضلا عن لغط كبير، ربما كنا بحاجة معه أن نذكر إلى ضرورة أن ننتبه إلى حقيقة أن الأزهر أكبر من أن نختزله في حديث مثل هذا حول الطلاق. وأن مكانته أكثر رصانة من أن توجه إليه مثل تلك الغمزات أو اللمزات، أو «القفشات».

***

على أولئك الذين يأخذون على الأزهر جموده، أن ينتبهوا إلى أن الأزهر، كغيره لن يعرف «حرية الفكر»، إلا لو تحرر في ذاته. ولا حرية بلا استقلال

ثم كان أن دارت الدائرة، مع تزايد لعمليات إرهابية لم تتوقف على مدى السنوات الأربع الماضية. فاستسهل البعض، دون تدقيق أو تمحيص في القرائن والأدلة، والأدهى دون دراسة للتاريخ أن يكتفي بوضع الأزهر في قفص الاتهام. كما انتهزها السلطويون فرصة للنيل من «استقلال» بدا بالخبرة أنهم لا يطيقونه، فازدادت الحملات الإعلامية سخونة «وخلطا للأوراق»، وسمعنا عن مشروع قانون لا يستهدف في حقيقته غير النيل من هذا الاستقلال. ثم كانت المفارقة فيما بات واضحا من جهل البعض حقيقة أنه كلما ضعف الأزهر (باقترابه من السلطة / أو بتماهيه معها) كلما زاد التطرف، وكلما انصرف عنه الناس إلى مقولات قادمة من التاريخ البعيد أو من الشرق البعيد. ولعل من ينتمي إلى جيلنا يعرف جيدا، كيف انصرف طلاب السبعينيات عن الأزهر «الساداتي» المبرَّر، وكيف راج يومها في جامعاتنا وصف «فقهاء السلطان». كما لعلهم يذكرون كيف وجد اغتيال الشيخ الذهبي (يوليو ١٩٧٧) تبريره الأحمق يومها في المقولة ذاتها. 

ثم كان أيضا وسط اللغط، والضجيج الإعلامي أن سمعنا فيما سمعنا، أن هناك من يطالب الأزهر «الجامعة» بإحراق كتب في مكتبته بزعم أنها تقول كذا أو كذا. وينسى القائلون، أو لعلهم لم يعلموا أصلا أن ما من مكتبة في جامعات الغرب، أو بالأحرى ما من طالب يدرس العلوم السياسية أو ما شابه من الإنسانيات، إلا وعليه أن يقرأ / يدرس كتب ماركس ولينين وهتلر، دون أن يعني ذلك بحال أن هذه الجامعة الغربية العريقة أو تلك تروج للماركسية أو للنازية. ولكنه «العلم» الذي يوجب على من يطلبه أن يقرأ، ليعرف.. ومن ثم «يناقش» ما كان يقوله السابقون. أما «محارق الكتب» فلم نسمع عنها فى التاريخ إلا زمن الغزاة والطغاة؛ تتارا كانوا أو نازيين، أو «دواعش» يحرقون مكتبة الموصل. ولذا كان من قبيل المفارقة (المؤلمة والدالة) أن تقدم مسئولة «بالتعليم» فى محافظة الجيزة (أبريل ٢٠١٥) على فعل مشابه، حماسا، أو غفلة، أو إثباتا لولائها للعهد الجديد. 

النازي يحرقون الكتب (١٩٣٣)

***

أخشى أن بعض الحديث، غير المنضبط عن «تجديد» الخطاب الديني، قد يؤدي إلى احتقان لدى كثيرين، في وقت نحن في غنى فيه عن مزيد من الاحتقان

على الذين لا يريدون الاعتراف بما في ملف «الحرب على الإرهاب» من جوانب جلية أو خفية، يتجاهلونها، عن عمد أو غيره ويستسهلون تعليق الجرس في رقبة الأزهر أن يتذكروا أولا: أن الإرهابيين فجروا المعهد «الأزهري» فى العريش مرتين. ثم عليهم ثانيا: أن يجيبوا على أسئلة ثلاثة:

١ــ هل اتضح أن أحدا ممن قام أو شارك في أى من تلك العمليات الإرهابية، كان أزهريا أو تلقى تعليمه في الأزهر. بالمناسبة، أيمن الظواهري درس في طب قصر العيني لا الأزهر، ومحمد عطا؛ المصري الوحيد الذي شارك في تفجير برجي التجارة في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، كان من خريجي هندسة القاهرة لا الأزهر. وبالطبع لا عاقل يمكنه القول بأن مناهج هذه الكلية (الطب) أو تلك (الهندسة) تروج للتطرف أو الإرهاب.

٢ــ هل يستمع هؤلاء المتطرفون / الإرهابيون أصلا إلى شيوخ الأزهر وعلمائه، أو يقرأون لهم؟ أم أنهم على العكس تماما يرفضونهم، أو حتى يكفرونهم؟

٣ــ هل إقالة شيخ الأزهر، أو إصدار قانون يُحد من استقلال الأزهر (كما يحاول بعضهم أن يفعل أيضا مع القضاء) سيقضي على العمليات الإرهابية، أو سيعمل على تجفيف منابعها؟

أخشى أن هناك من يستسهل إلقاء الكرة في ملعب الأزهر، أو بالأحرى من وجدها فرصة للنيل من «استقلال» لا يطيقه.

وأخشى أن الذين يلوكون مقولة «تجديد الخطاب الديني» ينسون أن الخطاب الديني قد جرى تأميمه فعلا بخطبة جمعة موحدة، وأنه واقعيا لا خطاب دينيا الآن غير الخطاب الرسمي.

بل وأخشى أن بعض الحديث هكذا، دون روية أو حذر عن «تجديد» الخطاب الديني، قد يؤدي إلى احتقان لدى كثيرين، في وقت نحن في غنى فيه عن مزيد من الاحتقان.

كما أخشى أن هناك من لا يريد أن يعترف بأن كثيرا مما نشهده الآن لم يأتِ من منطلقات «عقائدية» صرفة، بل له أسبابه السياسية والاجتماعية والأمنية، يأسا من ديمقراطية رأوها أُجهضت، أو ثأرا لأهل ورفاق لم يُقتص لهم، أو شعورا بأن «ظهرك إلى الحائط»، وأنك مطاردٌ حتى الموت. ساعتها يسهل أن يبيع لك أحدهم فكرة «الموت البديل»؛ قتالا يسميه لك جهادا، أو انتحارا يسميه لك استشهادا.

هناك إرهاب؟ نعم. أما كونه «إسلاميا» أو عقائديا صرفا، كما كان إرهاب التسعينيات، فذلك سؤال تطول إجابته. ولعله يكون موضوعا لمقال قادم، بإذنه تعالى.

***

«هل يظلمون الأزهر.. أم يظلمُ الأزهرُ مكانتَه وتاريخَه؟» سؤال طرحته قبل عامين كاملين حين تفضل أساتذته فدعوني لأتحدث في افتتاح موسمه الثقافي (مارس ٢٠١٥).

 هل هم يظلمون الأزهر؟

يومها قلت إن الإجابة: نعم.

فهم يظلمون الأزهر حين لا يدركون حقيقة أنه ابْنُ واقعِه ومجتمعِه ولحظتِه التاريخية. صعودا وهبوطا، قوة وضعفا، ثراء فكريا حين تَكُونُ سمةُ المجتمعِ حريةَ الفكر وثراءَ التنوع. وجدْبا في أحايينَ أخرى حين تضيقُ بخناقِه السياسةُ وأهواءُ السلطان، وخلافاتُ القصور والخلفاءِ والعواصم؛ بغداد العباسية والقاهرة الفاطمية.

يظلمون الأزهر حين ينسون أو يتجاهلون إن قصته الألفية الطويلة كانت بها دوما ظلالٌ من قصة السلطان الذي لم تعرفه منطقتنا تلك، خليفة أو أميرا أو رئيسا إلا وبمعيته فقيهه وسيافه. سواء ارتدى الفقيه عمامة في مجتمعات تحركها مشاعر الدين، أو كان «إعلاميا» على شاشة تلفاز، حين يصبح هناك من لم يحفظ غير قصة «جوبلز» الشهيرة.

ثم هم ــ بعد ذلك ــ يظلمون الأزهر حين يأخذون عليه (ولهم في ذلك بعض الحق) بأنه يصادر حرية الفكر والإبداع، ثم يطلبون منه، في الوقت ذاته أن يصادر كتبا من تراثه بدعوى أنها تحوي فكرا عفى عليه الزمان.

هم يظلمون الأزهرَ بالتأكيد حين تزدوجُ المعايير، ونحن بتنا على أي حالٍ مرضى بازدواج المعايير، فيطلبون منه أن يفعلَ بالضبط ما يأخذونه عليه: مصادرة الفكر، وإحراق الكتب.

هم يظلمون الأزهر، نعم. ولكني أخشى أن من الحريصين عليه (ومنهم بعض الأزهريين) من يظلمونه أيضا، حين تستدرجهم الثقافة الحاكمة فينسون أن فى التنوع ثراء، وأن لا تنوع إلا بإطلاق حرية الفكر، لا بمصادرته أيا كانت دعاوى المصادرة أو الإقصاء. 

***

الأزهر ابن مجتمعه. ولا تحرير لخطاب ديني أو غيره، إلا بمناخ من الحرية يسود المجتمع ويصبح عماد ثقافته

بقى أن أكرر ما قلته يومها لكل من يحاكمون الأزهر، أو يطالبونه بما يطيق أو لا يطيق: فقط ارفعوا أيديكم عن الأزهر، ودَعوه أو ادْعوه ليعود إلى جوهره معهدا علميا يعرف ثراء التنوع، الذي «لا يصادر فكرا ولا رأيا».

كما بقى أن أُكرر: أن الحاجة ليست لدعوة تَرفع شعارا سمعناه في تاريخنا الحديث مائة مرة: «تجديد الخطاب الديني»، بل الحاجة الحقيقية هي لتحرير الخطاب الديني، كما تحرير كل خطاب؛ عرضا ودراسة ومناقشة ومقارعة الحجة بالحجة.

علينا ألا ننسى أن الأزهر ابن مجتمعه، وثقافة مجتمعه.

والحال هكذا، فلا تحرير لخطاب ديني أو غيره، إلا بمناخ من الحرية يسود المجتمع ويصبح عماد ثقافته؛ حرية تسمح بمعارضة الرئيس أو الأمير أو الخليفة، فتسمح بالتالي بمعارضة أو مناظرة هذا الفقيه أو ذاك الشيخ؛ كبيرا كان بقامة المودودى، أو صغيرا لا يعدو أن يكون إماما لزاوية صغيرة في مدينة جامعية. باختصار: الحرية ثقافة وتربية.. والمرء على ما تربى عليه.

***

وبعد..

فما سبق ليس دفاعا عن الأزهر؛ شيخا أو شيوخا، سابقين أو حاليين، بل دفاع عن «الاستقلال» الذي ضمنه الدستور لمثل تلك المؤسسات، ودفاع عن «الحرية» التي عرفتها زمنا تلك الجامعة العريقة؛ بحثا، وتدقيقا، ومقارعة للحجة بالحجة، بلا قيد أو مصادرة أو إقصاء لرأي أو أطروحة أو مذهب.

لا يحتاج الأزهر من يدافع عنه. بل ربما نحتاج نحن من يدفع عنه رياحَ السياسة، وأهواءَ السلطة، وضيق صدر الخلفاء والحكام. ثم قبل ذلك كله أثر ثقافة سلطوية «أبوية» متوارثة، لا تعرف غير التلقين فالسمع والطاعة والإذعان. 

نعرف بالتجربة التاريخية البعيدة والقريبة أن المستفيد الأول من إضعاف الأزهر، سواء بتماهيه مع الحاكم؛ أيا من كان هذا الحاكم، أو بمصادرة بعض شيوخه لجوهره الفكري القائم على حرية الفكر والبحث والنقد، هم أولئك المتشددون (المتنطعون).. ومن ثم الإرهاب. وأن الخاسر الأول دائما هو النهضة والتقدم، فضلا عن أمن المجتمع ومواطنيه.

………..…….

أعرف أن هاجس الإخوانوفوبيا الذي أخشى أنه يتوسع ليصبح إسلاموفوبيا، (بتنويعاته الدينية والسياسية والأمنية) قد يحيد بهذا أو ذاك، فتضل الرمية هدفها. فلأولئك الذين أدمنوا هواجسهم أقول: إن هذا هو «الأزهر»، لا غيره.. وما هكذا أبدا تورد الإبل. 

وأعرف أن هناك، بحكم ثقافته من لا يطيق استقلالا لهذا أو ذاك. ولكن رويدا لا تكتفوا بالنظر تحت أقدامكم. ولا تكونوا من أولئك الذين «يَحْسَبُونَ أَنَهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا» (الكهف - آية ١٠٤)

كما أعرف أننا بشر وأن من الطبيعي أن يكون بين الأزهريين من يتطلع إلى كرسي الشيخ. ولكن لا تجعلوها «سابقة». إذ لكل سابقة لاحقة. فاتقوا الله.

ثم يبقى على أولئك الذين يأخذون على الأزهر جموده، أن ينتبهوا إلى أن الأزهر، كغيره لن يعرف «حرية الفكر»، إلا لو تحرر في ذاته. ولا حرية بلا استقلال .. هكذا تعلمنا. والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

ــ «هل يظلمون الأزهر.. أم يظلمُ الأزهرُ مكانتَه وتاريخَه؟»:

       ـالنص الكامل للكلمة

        ـالتسجيل التلفزيوني

ــ عن «الحرية»، والاستبداد، والسلطة .. قراءة في السيرة

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات