زوجة عم نسيم وروح مانديلا - جورج إسحق - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:12 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

زوجة عم نسيم وروح مانديلا

نشر فى : الأحد 23 أبريل 2017 - 9:45 م | آخر تحديث : الأحد 23 أبريل 2017 - 9:45 م

تصادف أن أكون فى زيارة لجنوب أفريقيا أثناء حدوث التفجيرات الأخيرة فى الكنائس فى أحد السعف الدامى، أنشق قلبى من الحزن على الضحايا وعلى استمرار توغل الإرهاب ليقتل غدرا أعز وأغلى ما يمتلكه الوطن وهو شعبه المسالم الذى يصلى من أجل بلد آمن وحياة مستقرة. ولكن توقفت أكثر وأكثر خلال قراءة شهادات أهالى الضحايا والشهداء وبخاصة شهادة زوجة «عم نسيم» خادم الكنيسة المرقسية عندما وجهت رسالة للإرهابيين قائلة «ربنا يسامحكم، الإنجيل علمنا أن نسامح الجميع حتى الذين يسيئون إلينا»، وتابعت: «أنا أصلى لأجلهم بأن يفتح الله بصيرتهم، وأن يفكروا فيما يفعلون تجاه أى نفس بشرية حرم الله قتلها». كيف لهذه السيدة أن تنطق بهذه الكلمات فى عز كارثة فقدان زوجها بتفجير غادر آثم!! هل هو الإيمان!! أم الحياة وما تعلمته منها من قيم التسامح أم كلاهما معا!!.
هنا تذكرت «مانديلا» وخاصة لأننى على الأرض التى ناضل من أجلها ومن أجل شعبها، فهل ما تحدثت عنه هذه السيدة هى روح التسامح التى قرأنا عنها من خلال السيرة الذاتية لنيلسون مانديلا؟؟ هل ما قالته هو تجسيد للمسمى الذى أطلق على «مانديلا» وهو «أيقونة التسامح فى العالم»!!
أمضى مانديلا، الذى قاد نضال السود ضد النظام العنصرى الأبيض فى جنوب إفريقيا، 27 عاما فى السجن من 1964 إلى 1990. وألهم رفاقه فى سجنه وفى السجون الأخرى بروح التسامح، بل نجح فى أن تتسرب هذه الروح رويدا رويدا وتنتشر بين الشباب وطوائف الشعب المختلفة من خلف القضبان لتتحول إلى نسائم الحرية وعقائد التسامح الإنسانية فى جنوب أفريقيا. وأضحى نيلسون مانديلا رمزا عالميا للحرية ثم للتسامح منذ أن خرج من سجون نظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا. ولخص الأسقف الانجليكانى ديسموند توتو إرث مانديلا بالقول إنه «نجح فى أن يحول جنوب إفريقيا دون حقد، لديمقراطية مستقرة متعددة الأعراق». ووصفه قائلا: «إنه أضحى رمزا عالميا للتسامح والمصالحة». وشكل مانديلا لجنة الحقيقة والمصالحة التى تولى رئاستها توتو وأصبحت نموذجا يطبق فى الدول التى تشهد انتقالا سياسيا وأعمال العنف.
***
زوجة عم نسيم بإيمانها وقدرتها الفائقة على التسامح وجعت قلوب المصريين وهى تعطى لهم درسا فى الفهم العميق لجوهر الدين. وقد ردد المصريون على مواقع التواصل الاجتماعى بعد مداخلتها الهاتفية «طوبى لمسيحيى مصر. وطوبى لرجال الكنيسة المصرية الذين استطاعوا غرس صحيح دينهم فى قلوب اتباعهم».. فقد لخصت زوجة عم «نسيم» فى جملتين قالتهما عقب استشهاد زوجها كل ما ناضل من أجله مانديلا وما جعله سببا فى الإلهام. فهى تعلم أن هؤلاء الإرهابيين فاقدون للرؤية والبصيرة وهناك من يلعب بعقولهم ويستغل عقيدتهم فى تنفيذ أعمال بعيدة كل البعد عن الأديان السماوية. ورغم أنها لم تصرح بذلك مباشرة فإن كلماتها حملت ما بين السطور ضرورة البحث الجاد عن خطاب جديد وآلية مستحدثة لكى يصل هذا الخطاب لهؤلاء الشباب «المضحوك» عليهم باسم الدين والعقيدة لكى يفتح الله بصيرتهم وينور عقيدتهم حسب ما قالته.
كيف لنا أن نخرج من تجربة مانديلا وعقيدة زوجة عم نسيم بدروس مستفادة تكون بمثابة الخلاص أو حتى الطريق للخلاص من كارثة الإرهاب وضياع مستقبل شبابنا بيد من يستغلهم أسوأ الاستغلال باسم الدين والعقيدة، الطريق للخلاص من رائحة الدم، الطريق للخلاص من الكره والتحريض والعنف إلى التسامح وتقبل الآخر والمعايشة السلمية بين جميع طوائف المجتمع، وتحقيق مبدأ المواطنة على أرض الواقع والعمل بدأب من أجل خروج مفوضة منع التمييز. وأيضا اقرأوا وتدبروا تقرير جمال العطفى بعد أحداث دامية لنتذكر ما حدث حيث أنه وضع فى هذا التقرير حلولا كثيرة لإشكالية العنف الدينى لم يكترث بها أحد فأرجو أن نستفيد من تجارب الماضى ونأخذ الأمر بجدية أكثر وفعالية أكثر ورؤى مستحدثة.
***
كم من مرة كتبنا وناشدنا أننا لن ننجو من خطر وكارثة الإرهاب دون التعليم وإصلاح المناهج الدراسية والمنظومة التعليمية بشكل عام. فالطفل هو الشاب الذى يكبر دون تعليم حقيقى ووعى شامل يحميه من خطر الانزلاق فى بؤرة الإرهاب، عقل الشاب ووعيه هو الأداة الحقيقة التى تجعله يقاوم الفكر الإرهابى ولا يصبح عجينة طرية فى يد هؤلاء الأفاقين الذين يتحدثون باسم الشريعة.
ونعيد مرارا وتكرارا أننا لن نستطيع مكافحة ومحاربة الإرهاب أمنيا فقط فلا غنى عن تطبيق المواطنة الشاملة بكل معانيها وأبعادها وأن تكون الدولة قادرة على استيعاب كل المواطنين دون أى إقصاء لأى مجموعة بسبب التمييز ضدها بناء على الهوية أو العرق أو الدين أو الطبقة الاجتماعية. وعمليات الإقصاء هذه تعزز اتجاهات اجتماعية وفكرية من شأنها أن تتطور بشكل عنيف وخطير إلى كيانات إرهابية لذلك يجب أن تواجه وتحارب حتى نحقق مبدأ المواطنة الشاملة عن طريق الممارسة والثقافة.
هذه المواطنة الشاملة تجعل من المواطن أن يشعر بأنه فى مجتمع سياسى منظم له حقوق وامتيازات وتفرض عليه واجبات والتزامات. قادر على المشاركة النشطة فى العملية السياسية، يشعر بالانتماء بالروابط العاطفية والشعورية التى تربط الفرد بالمجتمع والدولة. وليس بالرقابة على كل من يختلف فى الرأى أو يحتج عن طريق تلفيق التهم الجاهزة ووضع المختلفون فى السجون أو إبعادهم عن وسائل الإعلام المختلفة ومنعهم من الكتابة. لأن الاختلاف فى الرأى رحمة.
***
من العبث أن نقنن الحريات ونقول إننا بذلك نحارب الإرهاب، توطيد الإرهاب هو انتشار مثل هذه التهم التى انتشرت أخيرا تحت مسمى «ازدراء الأديان». فلا تغلق المجال العام وتقتل الحرية وتغلق الإبداع فى الفكر ثم تتحدث عن أنك تحارب الإرهاب. وحيث إن الإرهاب يبدأ فكرا فمحاربته لابد أن تكون محاربة فكرية قبل أن تكون أمنية.
هذا هو طريق الخلاص لو تبغون الخلاص وليس هناك طريق آخر، فلنستلهم مما كتبه مانديلا عن هدفه من حياته تجاه بلده وشعبه حيث قال «فى اليوم الأخير من حياتى أريد أن أتيقن من أن من عاشوا بعدى سيقولون إن هذا الرجل الذى يرقد هنا قام بواجبه من أجل بلده وشعبه‏».
فهل نستطيع أن نحقق ما ناضل من أجله مانديلا لوضع البلاد على طريق التسامح والمواطنة الحقيقة.

جورج إسحق  مسئول الاعلام بالامانة العامة للمدراس الكاثوليكية
التعليقات