فى الزحمة - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:18 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى الزحمة

نشر فى : الثلاثاء 23 أغسطس 2016 - 9:45 م | آخر تحديث : الثلاثاء 23 أغسطس 2016 - 9:45 م

مئات الخيام منصوبة على امتداد البصر. بين الواحدة والأخرى بركة مياه خلفتها أمطار النهار أو تسريبات الصرف الصحى. يهبط المساء فتركض الأمهات ليجمعن أطفالهن قبل أن يحل الليل فيفرض على المعسكر همجية الظلام الحالك ووحشيته. هناك عند طرف بعيد يصدر صراخ من امرأة كانت بين عديدات يحاولن قضاء حاجتهن، تأخر دورها حتى حل الظلام فانقض عليها وحش من الوحوش المتربصة. هناك عند طرف آخر صدر صوت يهتك سكون الشاطئ، صوت استغاثة من طفلة فارتفع إلى عنان السماء عويل نسوة لم يعثرن بعد على أطفالهن. عند هذا الطرف من المعسكر أو ذاك لا تمر لحظة بعد الغروب إلا ويشق السكون صراخ طفلة تكالبت عليها أنياب تمزق الروح والجسد معا، أو صراخ امرأة تحاول التفلت من قبضة أيادٍ قذرة ورائحة أنفاس عفنة تخنقها وتذلها.
***
تصف صحيفة الأوبزرفر الأسبوعية أحوال هذا المعسكر باعتباره آخر نماذج ممارسة الشر تحت اسم الخير. هناك فى اليونان وعلى إحدى جزرها الرائعة بطبيعتها أقيم معسكر للاجئين الفارين من قراصنة اختطفوا شعوبا أو جماعات فيها وأخضعوها لأبشع ممارسات الاستبداد والدكتاتورية أو الاضطهاد الدينى. يوجد بهذا المعسكر مائتان وخمسون سريرا ليتشاركها مالا يقل عن ٩٤٥ شخصا. لم يراعوا عند التوزيع على الخيام الالتزام بمعايير القرابة والنوع والعمر. تعددت شكاوى النساء من حملات يشنها فى الليل رجال من خارج سكان الخيام ومن داخلها لاغتصابهن. قالت واحدة إنها تهرب من غزوات الرجال فى عمق الليل بالاختباء فى ظلام الشاطئ. أقل الغزاة عددا هم الذين يأتون من خارج المعسكر، أما أكثرهم فهم من اللاجئين أنفسهم، أى من رفاق رحلة الفرار الطويل والقاسى فى قوارب مطاطية وفى بحر متقلب وتحت شمس حارقة أو برد قارس.
***
خرجت من مخيمات اللاجئين قصص مؤلمة. علمنا بأن المرأة اللاجئة قد تكون دفعت من جسدها ثمنا أو جزءا من ثمن رحلتها بالقارب إلى معسكرات اللاجئين فى أوروبا، دفعته إلى سمسار من بنى جلدتها أو إلى صاحب القارب أو أحد عماله. ثم علمنا بأنها قد تكون دفعته جزءا من ثمن عدم التعرض لطفلتها ذات الأعوام التسعة أو لتحصل على نصيب أولادها من طعام وشراب. علمنا أيضا بأن الشرطة على أبواب المعسكر لا تتدخل.
***
المهربون بينهم وحوش. الضباط وجنود الشرطة المكلفون بحراسة المعسكر بينهم وحوش. اللاجئون أنفسهم بينهم وحوش. توقعت أن أسمع كل هذا من الصديقة المتطوعة فى خدمة أحد معسكرات اللاجئين فى اليونان، ولكن لم أتوقع فى أى لحظة من لحظات السواد المحيط بكارثة اللاجئين أن أسمع منها أو من غيرها من العاملات فى منظمات الرعاية الإنسانية أن بعض أهل المرأة أو بعض الأصدقاء والقريبين منها يتحولون فى الليل، وأحيانا فى وضح النهار، إلى وحوش.
نقلت الصديقة المتطوعة عن إحدى اللاجئات حكاية رحلتها قالت اللاجئة: «سافر معنا من قريتنا خال زوجى مكلفا بحمايتنا إلى حين تسمح الظروف لزوجى باللحاق بنا. هذا المكلف بحمايتنا طاردنى فى الليل كما فى النهار. ساومنى ليحصل لى على نصيبى ونصيب أطفالى من الغذاء والماء النظيف. كان خطأى أننى فى بداية الرحلة غفرت له اختلاس النظر أثناء اصطحابنا أنا وبناتى لدورات المياه والحمامات. صدقته حين وقف مدافعا عنا فى وجه الأشرار. صدقته أيضا حين كان يعتذر عن تجاوزاته معى ومع بناتى بأن التصاقه بنا أثناء الليل وطول النهار أثار لديه الرغبات والشهوات. هل أنا مسئولة عما جرى لى ولبناتى.. أم المسئول هى منظمات ومؤسسات فى جنيف ونيويورك وأثينا لم تنتبه إلى أن لاجتماع المسافات والكوارث أثره المتدرج وأحيانا المباغت فى العلاقة بين الجنسين؟
***
حضرت فى القاهرة اجتماعا ضم عددا من المهتمين بتخفيف قسوة ظروف الحياة فى بعض أحياء المدينة. كنا فى الاجتماعات السابقة، نقف مكتوفى الأيدى أمام عقدة اكتظاظ السكان فى أماكن ضيقة، وهى أماكن تزداد اكتظاظا بمرور الأيام، وكنا فى كل مرة نشعر بأننا شهود على فصل من فصول جهنم ومن يصلوا بنارها. كنا شهودا على بشر تحرقهم فى كل لحظة نار من نوع أو آخر. تتغير النار بتغير الحاجة أو المكان أو الوقت. انضمت إلى الاجتماع متأخرة إحدى الناشطات الرائعات علما وخلقا وتفان. جاءت ومعها حكاية. جلسنا فى صمت لنستمع فى ألم إلى حكاية «بطلتها» ابنة الرابعة عشرة، التى اشتبكت منذ سن العاشرة فى علاقة جنسية غير متكافئة مع عمها، شقيق أبيها والأصغر سنا منه حتى حملت منه. أخذتها أمها وقلبها ينزف داخل صدرها إلى طبيب فى الحى فأوصى بإبلاغ الشرطة. جرتها جرا إلى شيخ المسجد فأكد على توصية الطبيب. ساقت الظروف اليهما صديقتنا الناشطة. أحسنتا صنعا.
هنا فى الحى الهالك كما هناك فى معسكر اللاجئين، عرفنا حقيقة ما يدور بفضل متطوعات وعاملات فى منظمات غير حكومية. هكذا استطاعت الأوبزرفر إبلاغ العالم بأسره عن شياطين معسكرات اللاجئين، واستطعنا أن نعرف المزيد عن شياطين أحياء الفقر فى مصر. هنا فى أحياء الصفيح والكرتون المقوى والبنايات الهرمة تعيش ثلاث أو أربع عائلات فى شقة واحدة. العائلة المكونة من سبعة أفراد أو ثمانية يتحركون ويأكلون وينامون ويتسامرون ويتشاجرون فى غرفة واحدة، ينامون ثلاثة أو أربعة فوق الفراش وثلاثة أو أربعة تحت الفراش، بينهم مراهقات ومراهقون. الغرف الأخرى بكل منها عائلة بالعدد نفسه أو أقل أو أكثر. جميع هؤلاء، سكان كل الغرف، نساء ومراهقات ورجال وصبيان وأطفال يستخدمون حماما واحدا وفى الغالب زجاج الشباك على بابه انكسر بفعل الزمن أو بفعل فاعل. الشقة لا تخلو تماما فى أى وقت من الأوقات، قد تخلو من معظم الرجال، ويتبقى واحد أو أكثر بسبب عطل فى العمل أو رغبة فى الانفراد بزوجة وابنة جاره المقيم فى الغرفة المجاورة.
قالت الأم أمام النيابة إن شقيق زوجها المتزوج غرر بابنتها وإنه حاول مرارا ابتزازها هى نفسها متذرعا بأنه ينفق على أخيه العاطل عن العمل. رفضت امرأته الدفاع عنه أمام الشرطة ولم تتهمه. حاولت أن تشرح أن شبابيك البيت الآيل للسقوط مكسورة وأن كل الناس «بتشوف كل الناس والدنيا مفتوحة على بعضها، لا ساتر ولا مستور..» البنت القاصر لم تعرف كيف تشرح ما حدث لها على أيدى عمها، لجأت المتطوعة إلى أستاذة علم نفس جامعية لتشجيع الفتاة على الكلام. ذكرت أنه أجبرها على أن تنام معه منذ كانت فى العاشرة من عمرها. هى الآن حامل.
***
أقفز الآن على تفاصيل كثيرة بعضها يؤلم لأصل إلى أن المشاورات والتدخلات انتهت بأن حصلت الناشطة ومن ورائها إحدى منظمات المجتمع المدنى على تعهد من الجد، كبير العائلة، بدفع مبلغ كبير من المال تشترى به الفتاة شقة صغيرة تؤجرها لتعيش هى ومولودها على دخلها. لم تنسحب الناشطة الاجتماعية إلا بعد أن استلمت المبلغ وأودعته صندوق المنظمة. الغريب، أو لعله الطبيعى، أن تحاول كل الأطراف الحصول على نسبة من المبلغ وحرمان الحامل والمولود المنتظر منه. راحت أمها، تطلب نصيبها من التعويض بحجة أنها هى نفسها كانت ضحية مثل ابنتها. توسلت لتحصل على ثلاجة صغيرة «كان نفسها من زمان فيها»، وراح الأب العاطل يطلب لنفسه مبلغا يسد به قسطا من ديونه لأخيه، أو يشترى لنفسه أرجيلة مثل التى يمتلكها شقيقه، فيجلس مثله على الرصيف «يتفرج على الرايح والجاى» بينما هو فى الحقيقة يعاين ما تكشف عنه الشبابيك المكسورة فى كل بنايات الشارع.
***
معلومة مهمة: فى الحى الذى شهد حكايتنا يسكن نحو مليون ونصف مليون شخص بنسة كثافة تصل إلى نحو خمسة آلاف شخص فى كل ربع كيلومتر مربع.
معلومة أخرى مهمة أيضا: فى العالم الآن خمسة وستون مليون لاجئا. هؤلاء يركبون قوارب وقطارات وحافلات مكتظة بالركاب وينامون فى خيام مكتظة بالسكان.
كل هؤلاء يعيشون أغلب ساعات أيامهم متلاصقين.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي