قانون ليس كسائر القوانين - جلال أمين - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 11:50 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قانون ليس كسائر القوانين

نشر فى : الثلاثاء 23 ديسمبر 2014 - 8:25 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 23 ديسمبر 2014 - 8:25 ص

ما أشهر هذا القانون لدى الاقتصاديين. بل وحتى من لا دراية له بعلم الاقتصاد، ولا بأى علم من العلوم، نسمع منه أحيانا ما يدل على أنه يعرف هذا القانون حق المعرفة، حتى وإن عبّر عنه بكلمات بسيطة وبدون أى مصطلحات. يقول لك هذا الشخص غير المتعلم، لكى يفسر ارتفاع أسعار السمك مثلا: «فى هذا العيد يزيد إقبال الناس على أكل السمك، والصيد قليل بسبب العواصف». هكذا يفسر لك الشخص البسيط ارتفاع الأسعار فأحوال العرض والطلب، دون أن يدرى أنه يعبر عن أهم قانون فى علم الاقتصاد. كتب اقتصادى أمريكى كبير «بول صامويلسون» مرة أنك «يمكن أن تحول ببغاء إلى اقتصادى بأن تعلمه كلمتين فقط: العرض والطلب». وتفسير ذلك بسيط. فالثمن هو أهم ظاهرة يدرسها الاقتصاديون، والثمن يتحدد بهذين العاملين: العرض والطلب، يزيد الثمن إذا قل العرض أو زاد الطلب. وينخفض الثمن إذا زاد العرض أو قل الطلب. وهذه الحقيقة تنطبق حتى فى مجتمع لا يستخدم النقود، فمادام هناك تبادل «ولو بطريق المقايضة» فإن عدد أرغفة الخبز التى تحصل عليها مقابل عشر بيضات، يتحدد أيضا بالعرض والطلب، وكذلك ما يطلبه منك الحلاق من البيض أو أرغفة الخبز، مقابل أن يقوم بقص شعرك. لابد إذن أن هذا القانون قد اكتُشف من قديم الزمان، سواء استخدم هذان اللفظان «العرض والطلب» أو استُخدم غيرهما فى التعبير عنه. وأذكر فصلا قصيرا فى كتاب ابن خلدون الشهير «المقدمة»، الذى كتبه فى أواخر القرن الرابع عشر، وإن كان له عنوان طويل هو «فصل فى أن القائمين بأمور الدين من القضاء والفتيا والتدريس والإمامة والخطابة والآذان ونحو ذلك لا تعظم ثروتهم فى الغالب»، ويفسر ذلك بقلة الطلب على خدماتهم. ثم جاء آدم سميث، «فى القرن الثامن عشر» فعبّر عن هذا القانون بصيغته الحديثة. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الاقتصاديون عن الكلام عنه. ولكن اقتصاديا شهيرا آخر «روبرت مالثوس» نشر كتابا مهما بعد كتاب آدم سميث بعشرين عاما، شرح فيه حقيقة أخرى مهمة، تتعلق بزيادة السكان، وفسرها أيضا بالعرض والطلب. فقال إن الاختلال بين العرض والطلب «أى المعروض من المواد الغذائية بالمقارنة بعدد السكان» يمكن أن يترتب عليه بعض من أسوأ المآسى الإنسانية: المجاعات والحروب والأوبئة. إلا أن مالثوس خطا خطوة أخرى مهمة، إذ بيّن أنه، وإن كان الطلب كثيرا ما يوجد العرض «أى أن احتياج الناس إلى سلعة ما يؤدى إلى العمل على إيجادها » فإن العلاقة العكسية هى الأهم فيما يتعلق بزيادة السكان. فزيادة المواد الغذائية تؤدى إلى زيادة السكان عن طريق ما تؤدى إليه من تخفيض الوفيات، بينما تؤدى ندرة المواد الغذائية إلى العكس، أى إلى انخفاض عدد السكان «عن طريق زيادة عدد الوفيات». فكأن ما يحدث هنا هو أن العرض هو الذى يوجد الطلب.

من المدهش فى تاريخ العلم أن نظرية مالثوس فى السكان تقدم لنا أحد الأمثلة القليلة جدا فى هذا التاريخ، على استفادة العلوم الطبيعية من العلوم الاجتماعية، بدلا من العكس، وهو الأكثر شيوعا. فقد جاء عالم الأحياء الشهير «تشارلس دارون» فنشر كتابه عن «أصل الأنواع» بعد كتاب مالثوس بستين عاما، ليقدم تفسيره لما يطرأ على الكائنات الحية من تطور، وتحولها من نوع إلى آخر، فرد ذلك إلى الصراع المستمر بين أفراد أى نوع من هذه الأنواع للحصول على المواد اللازمة لاستمرار الحياة، أو محاولتهم التكيف، والتأقلم مع ما يتوافر لهم من هذه المواد. فإذا بهذا الصراع أو هذه المحاولة من جانب الكائن الحى للتكيف مع الطبيعة المحيطة به «وهو ما يمكن التعبير عنه أيضا فإن المعروض فى هذه الحالة هو الذى يحدد الطلب» هو ما يحدد فى النهاية الصورة التى يتخذها تاريخ الحياة على هذه الأرض.

قال دارون بصراحة إن الذى ألهمه الفكرة عن تطور الكائنات الحية، هو كتاب مالثوس عن السكان. «وإن كان أحد المؤرخين الكبار لعلم الاقتصاد يعتقد أن دارون كان فى ذلك كريما أكثر من اللازم!». ولكن الذى يهمنا الآن هو أنه فى كلتا النظريتين نظرية مالثوس فى السكان، ونظرية دارون فى النشوء والارتقاء، يقبع ذلك القانون الخطير المعروف باسم: «قانون العرض والطلب».

•••

ما الذى يؤدى بى إلى إثارة هذا الموضوع الغريب الآن؟

غريب لا لقلة أهميته بل لأنه يبدو منبت الصلة بما نحن فيه الآن من مشكلات. ولكن الحقيقة أن الذى ساقنى إليه هو التفكير فى بعض مشكلاتنا الحالية. فمنذ أيام قليلة، نشرت مقالا «جريدة الأهرام 22/12» عن قلة جدوى إصدار قوانين جديدة لعلاج بعض هذه المشكلات، وعن خطأ الاعتقاد بأن إصدار هذه القوانين سوف يصلح المعوج ويضع الأمور فى نصابها. إذ إن هذه القوانين كثيرا ما تصطدم بحقيقة راسخة ليس من السهل التغلب عليها. هذه الحقيقة هى ما يعبر عنه هذا القانون الشهير: «قانون العرض والطلب» فهذا القانون الشهير ليس كسائر القوانين فهو لا يصدر عن الحكومة أو مجلس الشعب، بل قانون تسنه طبيعة الأمور والسير الطبيعى للحياة، ولهذا فإنه قد يعطل تطبيق أشد القوانين صرامة.

فى فترات الحروب، تلجأ بعض الحكومات فى بلاد من أكثر البلاد التزاما بالمبادئ الرأسمالية وحرية السوق، إلى التدخل بوضع تسعيرة جبرية لبعض السلع الضرورية والنادرة «التى أصبحت نادرة بسبب الحرب». فإذا بها تجد صعوبة فى فرض التزام بعض الناس بها «مهما كانت درجة وطنيتهم وولائهم»، إذ تجد «السوق السوداء» قد ظهرت لبعض السلع، كتطبيق لقانون العرض والطلب.

وفى الشهور الأولى لثورة 23 يوليو 1952، أصدرت حكومة الثورة قانونا للإصلاح الزراعى يقضى بالاستيلاء على الأراضى التى تزيد على الحد الأقصى للملكية، وتوزيعها على المعدمين من الفلاحين، فتم تنفيذ هذا وذاك بالقوة ولكن ما لم تستطع الحكومة تنفيذه هو فرض حد أدبى للأجر الزراعى، إذ استحال تنفيذه طالما استمر عدد المتبطلين المستعدين لقبول أى أجر «وهذا هو جانب العرض» أكبر من الطلب عليهم، ولم تبدأ مشكلة انخفاض الأجر الزراعى فى الانفراج حتى أوجدت فرصا جديدة للعمل، بالتصنيع وبناء السد العالى. أظن أننا فى مواجهة كثير من مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، علينا أن نتعلم الكفّ عن مناطحة قانون العرض والطلب.

ليس معنى هذا أن نتخلى عن الإصلاح، بل معناه أن تكون جهودنا قائمة على إصلاح الخلل بين العرض والطلب، بين خريجى بعض الكليات مثلا وبين قلة المطلوب منهم، أو بين الراغبين فى التوظف فى الحكومة بأى راتب، وبين حاجة الحكومة الحقيقية إليهم، بل وبين حاجة الموظف، الذى أصبح يعتبر مبلغ الرشوة جزءا أساسيا من دخله الشهرى، وبين الراتب الذى يحصل عليه بطريقة مشروعة. إن التأكيد على أهمية قانون العرض والطلب وصعوبة أو استحالة القضاء عليه، ليس من قبيل الدعوة إلى تخلى الدولة عن دورها فى تسيير الاقتصاد، بل هو فقط تأكيد على أن دور الدولة فى الاقتصاد يكون فى أفضل حالاته حينما يؤدى إلى إيجاد الظروف التى يصبح فيها السعر فى السوق هو السعر المعبر عن الحقيقة، أو بعبارة أخرى، إيجاد الظروف التى تصبح فيها الأسعار الحرة هى الأسعار العادلة. وتحقيق هذا ليس معناه توقف الحكومة عن التدخل، بل معناه أن تتدخل الحكومة بحكمة

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات