مفارقة تساوى ألف سيناريو - سمير كرم - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 9:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مفارقة تساوى ألف سيناريو

نشر فى : الثلاثاء 24 مارس 2009 - 9:32 م | آخر تحديث : الثلاثاء 24 مارس 2009 - 9:32 م

 عالم السياسة عالم مفارقات. بمعنى أنه ــ أكثر من غيره ــ ملىء بالمفارقات، ربما أكثر من غيرها من التناقضات والأضداد والمتوازيات..والأكاذيب الكبيرة والصغيرة.

لكن ثمة مفارقة جديدة تلوح فى عالم السياسة الشرق أوسطية تفوق فى حجمها وفى غرابتها معظم ما عرفناه فى عالم السياسة فى هذه المنطقة. إنها مفارقة تساوى ألف سيناريو، تتعلق بالسياسات الأمريكية ــ الإسرائيلية أو الإسرائيلية ــ الأمريكية، حسب زاوية النظر.

لابد قبل الخوض فى المفارقة ذاتها من شرح الخلفية التى تقع فى إطارها. ففى الوقت الذى نتحفز فيه لمعرفة مدى ونوع التغييرالذى كان الرئيس الأمريكى الجديد باراك أوباما قد تعهد بأحداثه فى سياسة أمريكا الشرق أوسطية، أقدم اللوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة على إخضاعه لاختبار سريع، لكنه صعب.

إذ اعترض على نطاق واسع وبلغة حادة على ترشيح أوباما للدبلوماسى المخضرم تشارلز فريمان لشغل منصب رئيس المجلس القومى للمخابرات، وهو مجلس يضم كل أجهزة المخابرات الأمريكية ــ وعددها 17 ــ بما فيها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA).

استخدم اللوبى الصهيونى كل قواه التنظيمية والإعلامية والسياسية فى واشنطن، ولم يتردد فى أن يعطى القيادة فى هذه الحملة ضد فريمان وضد ترشيحه والذين رشحوه لستيف روزين أحد الفاعلين البارزين فى لجنة الشئون العامة الإسرائيلية ــ الأمريكية (ايباك)، على الرغم من أن روزين موظف فى السفارة الإسرائيلية فى واشنطن، وأخطر من هذا أنه ضمن المتهمين فى قضية تجسس على أمريكا لصالح إسرائيل(...).

وضمن هذه الحملة كتب روزين خلال أسبوعين اثنين 19مقالا فى صحف أمريكية متباينة. وبطبيعة الحال لم يكن وحده الذى كتب ولكنه كتب أكثر من الآخرين.

وفيما كتبوا جميعا اعتبروا أن ترشيح فريمان نوع من الانحراف الجارف بعيدا عن التقاليد وعن أعراف العلاقات مع إسرائيل لأن للرجل مواقف سابقة منذ أن كان سفيرا فى السعودية انتقد فيها إسرائيل والاقتراب الزائد منها فى سياسات الولايات المتحدة الشرق أوسطية. ووصف فريمان بأنه «ألعوبة فى أيدى السعوديين».

تذرع البيت الأبيض الأوبامى بالصمت. أظهر افتقارا واضحا إلى شجاعة الدفاع عن مرشح الرئيس وهو دبلوماسى محترف يتمتع برصانة ومعرفة مشهودين. وخلال أيام تبين لفريمان نفسه أنه حتى لو صمد للهجوم ونجح فى الحصول على تصديق مجلس الشيوخ ليصبح رئيسا للمجلس القومى للمخابرات ــ وهو احتمال بعيد ــ فإنه لن يُترك يؤدى وظيفته على النحو المتوقع منه.. فآثر الانسحاب.

إلى هذا الحد لا مفارقة هناك. فهذا هو مألوف الأحوال فى واشنطن حين يتعلق الأمر بإسرائيل ومن يجرؤ على انتقادها ثم يتوقع أن يشغل منصبا مهما فى الإدارة الأمريكية.

نجح اللوبى الصهيونى فى اختبار أوباما وإرادته، سقط أوباما سقوطا مدويا على مرأى من إدارته والكونجرس والسفارة الإسرائيلية والإعلام الأمريكى.. والسفارات العربية فى واشنطن.

فى الوقت نفسه ــ لا قبله ولا بعده ــ كانت إسرائيل تتعرض لحملة انتقادات من الإعلام الأمريكى خارج إطار «إعلام المؤسسة» الحاكمة، أى من الإعلام التقدمى اليسارى ومعظم الإعلام الليبرالى.. فى حملة كانت استمرارا لموجات النقد ضد حرب إسرائيل فى غزة وما ارتكبته أثناءها..حملة توقعت أن لا تستطيع إسرائيل، بما تنتهجه من سياسات وما ترتكبه من أفعال أن تصمد طويلا.

وفى أثناء ذلك نشر الإعلام الأمريكى على غير العادة نبأ كانت قد نشرته فضائية إيرانية اسمها «تى.فى. بريس» مفاده أن تقريرا محدود التوزيع للغاية أصدرته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يقدر أن إسرائيل لن تعيش أكثر من 20 سنة أخرى، وأن مليونين من سكانها اليهود سيهاجرون منها إلى الولايات المتحدة خلال السنوات الـ15 القادمة.

وسواء صح هذا النبأ المنسوب إلى المخابرات المركزية أو لم يصح فإن مضمونه لا يخرج كثيرا على تقديرات المنظمات اليهودية المناهضة للصهيونية المنتشرة فى أنحاء أوروبا، كما لا يخرج على تقديرات مماثلة لمخابرات أوروبية ولعدد من مصانع الأفكار (مراكز الدراسات) الأمريكية والأوروبية. وهى تبنى تقديراتها على التصدع السياسى المتمثل فى عجز إسرائيل عن أن تشكل حكومة لها على مدى شهور، وعلى تراجع مشروع إقامة دولتين: إسرائيل ودولة فلسطينية إلى جانبها تحكمها شروط سياسية وعسكرية وسكانية واقتصادية تمليها إسرائيل، وفى الوقت نفسه صعود أهمية مشروع الدولة الواحدة الديمقراطية لليهود والعرب على أرض فلسطين التاريخية كلها.

هنا تظهر المفارقة التى لم تخطر ببال من قبل.

إن إسرائيل تضعف وتتراجع فرص البقاء أمامها.. بينما يقوى اللوبى الصهيونى فى أمريكا.

فهل يعنى هذا أو يؤدى إلى وضع لا تعود فيه إسرائيل موجودة بينما يبقى اللوبى الصهيونى فى أمريكا قويا وفاعلا؟

هل يعنى هذا أن الصهيونية كنظرية يمكن أن تعيش بعد أن ينهار مشروعها الأساسى: الدولة اليهودية؟
أم أن نهاية الصهيونية كنظرية وكمشروع ستسبق تفكك دولة إسرائيل ونهايتها؟

وإذا بقى اللوبى الصهيونى إلى ما بعد إسرائيل..ماذا سيكون دوره فى الولايات المتحدة؟ هل يقتصر هذا الدور على المهمة التى من أجلها تأسست كل المنظمات اليهودية الأمريكية، الصهيونية وغير الصهيونية، وهى مهمة مكافحة العداء للسامية؟ ماذا سيكون دور المنظمات اليهودية فى أمريكا وهى تتقدم ــ بسبب أزمة الرأسمالية العالمية ــ نحو نظام مختلف ودور مختلف قد لا يكون عالميا أصلا؟

قد لا تكون هذه المفارقة بين الاحتمالات مفارقة آنية إنما هى مفارقة مستقبلية. لكن حتى إذا افترضنا أنها مفارقة تتعلق بالمستقبل البعيد، فإن من واجبنا ــ ونحن الطرف الآخر فى الصراع ــ أن ندرس هذا السيناريو باعتباره قابلا للحدوث وباعتبار ضرورة للاستعداد له.. وبجدية. فلا يجوز أن تفاجئنا التطورات.. حتى وإن اعتبرناها تطورات مواتية، لصالحنا وليست ضدنا، كما هى عادة تطورات الماضى والعقود التى انقضت منذ قيام دولة إسرائيل. فلن يكون بإمكاننا استثمارها ــ أى توظيفها ــ لخدمة قضايانا دون تصور تفصيلى مسبق لتكويناتها وانعكاساتها.

إنما يبدو أننا نحب أن نستبعد هذه الاحتمالات باعتبارها بعيدة.. باعتبارها أضغاث أحلام، بينما يعكف غيرنا على دراستها.

من كان يمكن أن يصدق فى عام 1975 أن الباقى فى عمر الاتحاد السوفيتى لم يكن يتجاوز آنذاك 15 عاما؟، ومن كان يتصور فى عام 1995 أن موجة الرخاء وارتفاع قيمة الأسهم لم تكن أكثر من فقاقيع مالية تأتى بعدها الأزمة المالية الراهنة فى الولايات المتحدة والعالم؟

لم يعد يجوز النظر بلا مبالاة إلى سيناريوهات المستقبل فى هذه المنطقة وعلاقاتها العالمية، وكأن الأمر لا يعنينا.

سمير كرم  كاتب سياسي مصري
التعليقات