إن ردة الفعل الإسرائيلية الأولى على أحداث «الربيع العربى» كانت متوترة ولامست حدود الهلع، لكنها كانت مبررة، فأول حاكمين أسقطتهما الثورة العربية ــ زين العابدين بن على فى تونس وحسنى مبارك فى مصر ــ هما وجهان معروفان، إذ شكل مبارك دعامة نظام جعل إحدى الدول العربية المهمة، أى مصر، تنتهج نهجا سياسيا ملائما للمصالح الأمنية الحيوية لدولة إسرائيل. لا نقول إن مبارك كان مؤيدا للصهيونية، كما زعم معارضوه فى مصر وفى منطقة الشرق الأوسط، لا بل كان أحيانا العكس من ذلك فهو الذى أطلق الحرية لحملة دعائية معادية لإسرائيل وللسامية وللولايات المتحدة الأمريكية. لكن على الرغم من هذا كله، كان مبارك يرى أن مصالح مصر القومية تستوجب قيام سلام مع إسرائيل، ومواجهة مع الإسلاميين المتطرفين، وقمعا حازما للإرهابيين، وتنسيقا وثيقا مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ازدادت مخاوف إسرائيل عندما بدأت الصورة تصبح أكثر وضوحا، وعندما تبين لها أن القوى المستفيدة من سقوط الأنظمة القديمة لا تنتمى إلى معسكر الشباب العلمانى والليبرالى من الطبقة المتوسطة، الذى حظى بتغطية كبيرة فى وسائل الإعلام الغربية. فالقوى التى تعززت فى هذه المرحلة هى الحركات الإسلامية التى قُمعت خلال أعوام عديدة، والتى برهنت عن صمود وصلابة وأقامت شبكات خدمات اجتماعية خاصة بها، ليس فقط فى الأحياء الفقيرة فى المدن الكبرى بل أيضا فى المناطق الريفية الكبرى، ولم تنل هذه الحركات الإسلامية نصيبا كافيا من التغطية الإعلامية.
●●●
وسرعان ما تبين خطأ الفرضية القائلة إن الثورة تشكل خطرا على الحكام الطغاة والحكام المعتدلين أو البراجماتيين، وكانت هذه الفرضية قد شكلت مصدر قلق لإسرائيل، وزرعت الحماسة فى صفوف إيران وحلفائها فى المنطقة بمن فيهم النظام السورى. لكن وصول الربيع العربى إلى دول مثل ليبيا، واليمن، وسوريا، طرح بجدية احتمال أن يعوض إضعاف أو سقوط أنظمة معادية لإسرائيل الإحباط الذى شعرت به إسرائيل نتيجة إضعاف أو سقوط أنظمة مريحة لها. وقد يكون هذا التعويض كبيرا جدا فى حال استيقظت مجددا الدوافع التى أدت إلى الانتفاضة القصيرة فى طهران سنة 2009 (التى شكلت إلى حد ما أولى بشائر «الربيع العربى»)، على أن تكون هذه المرة أكثر قوة بحيث تفضى إلى زعزعة النظام فى إيران.
فضلا عن ذلك، أظهرت الحركات الإسلامية، التى ازدهرت بممارستها النشاط السياسى، بعض سمات الازدواجية فى مواقفها المعادية لإسرائيل إذ لم ينعكس العداء لإسرائيل بوضوح على صعيد الممارسة العملية. وعلى الرغم من ذلك، فإن صدقية هذا الاعتدال النسبى أو البراجماتية النسبية للحركات الإسلامية ما زالا موضع تساؤل حتى الآن. فقد يكون هذا الاعتدال النسبى مجرد ضريبة كلامية تستهدف استرضاء جمهور معين فى الداخل المصرى، أو جماهير وحكومات خارجية خاصة.
ما العمل؟
●●●
إن المقاربة الإسرائيلية لـ «الربيع العربى» هى أن على إسرائيل أن تواجه تداعيات هذا الربيع بكل إمكاناتها، لكن من دون ادعاء التأثير فى مجريات الأحداث، حتى فى تلك التى تعنيها كثيرا. وهذه مقاربة فى غاية الواقعية، إذ إن اللاعبين الخارجيين، بمن فيهم القوى الدولية الرئيسية كالولايات المتحدة الأمريكية، لا يملكون القدرة الكافية لتوجيه تطور الأحداث فى الاتجاه الذى يريدونه. ومع ذلك، فإن التأثير الهامشى ليس كالعجز عن التأثير فيما يحدث، وعليه، ينبغى علينا درس إمكانات تحويل التداعيات السلبية للتغييرات السياسية المتوقعة فى العالم العربى على إسرائيل السياسية المتوقعة فى العالم العربى على إسرائيل نحو اتجاهات أكثر إيجابية على مستوى العلاقات الثنائية وعلى المستوى الإقليمى.
فعلى مستوى العلاقات الثنائية، تشكل العلاقات مع الأردن مثالا على ضبط الأضرار، باعتبار أن النظام فى الأردن (على غرار النظام المصرى فى عهد مبارك) يلائم المصلحة الأمنية لدولة إسرائيل. ونظرا لأن الحركات المعارضة للنظام الأردنى تستمد قوتها من الضائقة الاقتصادية، فإن إسرائيل تستطيع، كما أشار عوديد عيران فى مقالته، مساعدة الأردن فى تخفيف الضغط الاقتصادى، وخصوصا فيما يتصل بمشكلات المياه والوقود.
أما على المستوى الإقليمى، وفى محاولة لتقليص سوء التفاهم ودحض الأفكار المسبقة المضرة، تستطيع إسرائيل تحسين صورتها الإشكالية فى العالم العربى من خلال مقاربة أكثر إيجابية من مبادرة السلام العربية، من خلال إعادة البحث عن نوع من التفاهم الفلسطينى ــ الإسرائيلى فيما يتصل بالخطوات التى ينبغى القيام بها فى سبيل تسوية النزاع.
●●●
طبعا، لا نضمن أن تحقق هذه المبادرات أهدافها المباشرة أو غاياتها العامة، كما أنها لا تلغى حقيقة أن إسرائيل لا تستطيع تغيير اتجاه التطورات التاريخية الناتجة عن «الربيع العربى». ومع ذلك، فإن كل جهد يُبذل فى سبيل نفخ نسمة الربيع النضر فى السياسة الخارجية والأمنية لإسرائيل من شأنه أن يكون مجديا.
دراسة للباحث فى معهد دراسات الأمن القومى الإسرائيلى
نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية