فى مديح «الذقن» الخشنة - حسام السكرى - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:08 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى مديح «الذقن» الخشنة

نشر فى : الأحد 24 مايو 2015 - 9:10 ص | آخر تحديث : الأحد 24 مايو 2015 - 9:10 ص

«بابا.. تعال هنا».. نظرت إلى أسفل. كان يقف أمامى ورأسه لا يكاد يتجاوز حزام البنطلون. جذبنى من طرف القميص. انحنيت ظنا منى بأنه يرغب فى تقبيلى. وضع يده الصغيرة الناعمة على خدى وتحسس ذقنى النابتة فى غبطة. اقترب ووضع خده الأملس الرقيق عليها ليشعر بخشونتها. ضحك فى جذل ثم رفع حقيبته من على الأرض وجرى نحو باب المدرسة. «باى بابا». قالها واختفى.

وقفت مشدوها. إلى أى حد تلعب الوراثة دورا فى حياتنا؟ فى طفولتى، كانوا يقولون إننى الأثير لدى جدى لأبى، لأنى ورثت أذنه الكبيرة. لاحظت بعدها كيف تماثلت أشكال شحمة الأذن لدى ولديه ولدى أبى. كنت فخورا بهذه الشحمة التى عرفت من مدرس العلوم فيما بعد أن لها فى خلايانا «جينا» ينقلها عبر الأجيال.

إلا أن وراثة الخصائص السلوكية تبدو أكثر تعقيدا، وخصوصا تلك التى كنت ترفضها فى أبويك ثم تكتشف مع مرور الزمن أنك تنحو تدريجيا إلى تبنيها إلى درجة التطابق.

كان أبى رجلا مسالما، يخشى الدخول فى أية خصومة. لم يكن يخاف الخسارة بقدر خشيته من أن يظلم أحدا. كان سريع التنازل، وعند التفاوض كان يرضى بالأقل. كانت عبارته الأثيرة «يا بخت من بات مغلوب ولا بات غالب». أتذكره بعد تسوية ميراث جدى. لم يحتفظ بنصيب فى أرض أو فى عقار. تركها للإخوة والأقارب مقابل ما عرض عليه. لم يفاوض أو «يفاصل» أو يسأل عن سعر السوق، أو يفكر فى الاحتفاظ بما ورثه ليبيعه لاحقا بسعر أعلى. وقتها اعترضت عليه وانتقدت ما رأيته تفريطا. رفض المناقشة، ولخص موقفه بعبارة واحدة «لقد أغلقت بابا للفرقة والخلاف». أعلم اليوم أنه كان على حق. زرع الإرث خلافات بين الأقارب الذين ارتبطوا به، واحتفظ هو بحبهم ومكانته بينهم. تمر السنون واكتشف أن خوفه مزروع بداخلى وأننى أصير مثله كلما تقدم العمر بى.

يقول العلماء إن البيئة تؤثر فى شخصيتنا أكثر من عوامل الوراثة. وإذا افترضنا أننى اكتسبت النفور من الصدام إلى حد تفضيل الهزيمة، من سلوك أبى وليس جيناته، فلن أتمكن مثلا من تفسير علاقة ابنتى نادين بالرسم. منذ بدأت تعى وتحبو وهى فى بحث دائم عن الأقلام والألوان. الرسم الذى كان جزءا من حياتى لفترة طويلة كهاو ومحترف ولكن علاقتى به كهاو ومحترف توقفت سنوات قبل أن تخلق. لم تولد فى «بيئة فنية» ولكن الرسم كان هاجسها منذ تمكنت من لف أصابعها الصغيرة على قلم أو طبشورة، إلى حد أن الرغبة فيه كانت تباغتها فتجرى باحثة عن أدوات الرسم وهى تصرخ «أحتاج» (وليس أريد) أن أرسم، كما لو كان الأمر ضرورة بيولوجية ملحة. فهل تنتقل جينات الرسم عبر الأجيال؟

لمسة الذقن الخشنة أعادتنى عقودا إلى الوراء. كنت مفتونا بهذه الخشونة فى ذقن أبى. كنت أجذبه ليسمح لى بتحسسها، وأتسلل إلى سريره وهو نائم لأمر بيدى الصغيرة على فضائها الرحب. وعندما وضع آدم الصغير خده على ذقنى النابتة، لم أملك إلا أن أتساءل: هل يا ترى انتقل «حب الذقن» إليه عن طريق الجينات؟

التعليقات