صناعة الكراهية! - بلال فضل - بوابة الشروق
الثلاثاء 7 مايو 2024 5:46 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صناعة الكراهية!

نشر فى : الإثنين 24 يونيو 2013 - 9:40 ص | آخر تحديث : الإثنين 24 يونيو 2013 - 9:40 ص

يمكن أن ينجو الحاكم من أي شيئ إلا من كراهية عامة الناس له، يستطيع أن يصمد في وجه الإنقلابات العسكرية وكراهية النخبة السياسية بل وتآمر القوى الدولية، لكن غضب الجماهير العريضة من أبناء شعبه وحده سيطيح به، إذا قرر الناس أنه صار عبئا تجب إزاحته، وأن صفاء بالهم ربما يعود إذا اختفى وجهه العكر عن أنظارهم.

 

في روايته القصيرة المكيرة (فيل الوالي) يحكي الروائي العظيم إيفو اندريتش عن بلدة بوسنية اختبرت أشكالا وألوانا من ظلم الولاة لكنها تمكنت من الصبر والإحتمال، حتى جاءها يوم أغبر تولى أمرها فيه حاكم تركي جديد كانت سمعته القمعية قد سبقت وصوله إليها، لكن أحدا لم يتصور أنه سيصل إلى البلدة مصطحبا معه فيلا ليكون حيوانه المدلل.

 

ظن أهل البلدة في البدء أن تربية الفيل ليست سوى هواية غريبة لهذا الحاكم القادم من المجهول، لكنهم اكتشفوا أنها كانت وسيلة جنونية منه لمضايقتهم وتكديرهم كل يوم وهم يرون الفيل يسير في شوارع البلدة ويعيث في أسواقها فسادا وينشر الفزع في نفوس الأمهات والأطفال، ولم يكن الحاكم المغتر بقوته يدرك أن ما ظنه وسيلة لفرض مظاهر الطاعة تحول إلى وسيلة لصناعة الكراهية.

 

يقول ايفو اندريتش واصفا كراهية الشارع التي لا يلقي الحكام بالا لخطورتها «عندما تنصب كراهية الناس على شيئ أو أمر معين فإنها لا تتخلى أبدا عنه، ولا تتوانى عن التفكير الدائم فيه، فتصبح الكراهية غاية بحد ذاتها، حتى عندما يصير هذا الشيئ أو الأمر موضوعا ثانويا ولا يبقى منه إلا الاسم فقط، تلك الكراهية تتبلور وتنمو تلقائيا وفق قوانينها ومتطلباتها، وتصبح ذات سلطان وقدرة على الإبداع والزهو، مثل حب مُحرّم، وتجدُ مناهل وحوافز جديدة، وتوجد بنفسها الذرائع لمزيد من الكراهية.

 

وحين يكره الشارع مخلوقا ما، كرها عميقا مريرا فإن هذا المخلوق يجب أن يزول إن آجلا أو عاجلا. ويكون هناك إصرار شديد على ذلك حتى لو تمكن هذا المخلوق من تدمير السوق من أساسها وإفناء رجالها عن بكرة أبيهم».

 

كراهية الناس كما يصفها إيفو اندريتش تبدأ صماء وعمياء لكنها لا تظل بكماء، ولذلك فقد قرر أهل البلدة أن يعلنوا عن كراهيتهم بادئين ذلك بعبارة صغيرة «طفح الكيل، بهذه العبارة، كان الحديث يبدأ عادةً. على أن هذه العبارة، لم يكن يُنطق بها لأول مرة، فليس ثمة جيل لم يطفح الكيل أمام عينيه، مرة بل مرات عديدة.

 

على الرغم من صعوبة التحديد بدقة، متى كان الكيل يطفح، ومتى كان يُنطق بهذه العبارة، فهي بمثابة زفرة عميقة أو حسرة دفينة، تخرج من بين الأسنان، وهي في الواقع صادقة وحقيقية في نظر من ينطق بها. يقول أحدهم للآخر ناصحا: لو أنزل كل إنسان ضربته بمن هو في متناول يده، أو بمن يزعجه لن تكون هناك نهاية لذلك ستتسع المعركة وتشمل كل العالم. فيرد عليه: مالي أنا والعالم، تشمله أو لا تشمله، فليكن».

 

هكذا هي الكراهية، وهذه هي لعنتها، عندما تتمكن من نفوس الناس فإنها تقوم بتشويههم، وتجعل الإنسان كما يقول أندريتش «مُلحا في رغبته في الإنتقام، مبتكرا للحيل التي لا بد أن توصله إلى هدفه».

 

لذلك بدأ الناس يجتمعون ويخططون لقتل فيل الوالي ليفقدوه أعز ما يملك، فجأة تحول الناس البسطاء المسالمون الذين لم يفكروا من قبل في العنف إلى أساتذة في التخطيط للشر والسعي لتنفيذ مخططاتهم، فقط ليشعروا أنهم تمكنوا من الإنتصار على الحاكم الذي كرهوه كراهية عميقة ومريرة، وعندما فشلت محاولاتهم في تسميم الفيل زادت كراهيتهم وبدأوا يفكرون في أساليب أكثر عدوانية وتهورا، لكن الحل النهائي جاءهم عندما هبطت عدالة السماء على القرية وحملت قرارا مفاجئا من السلطان بالإطاحة بالوالي الذي مات كمدا من صدمته، وللمفارقة لحق به فيله فسقط ميتا هو الآخر.

 

للأسف، يبدو حال أهل تلك البلدة أسعد حالا من حال أهل بلادنا، فالكراهية التي برع حاكمهم في صنعها انصبت على شخصه فقط، لأنه كان فردا قادما إليهم من الخارج ولذلك توحد أهل البلدة في كراهيته والتخطيط لأذيته، أما الكراهية التي برع حاكمنا محمد مرسي في صنعها في نفوس الناس لم تعد موجهة نحو شخصه فقط، بل أصبحت موجهة نحو عشيرته الإخوانية وكل من يؤيدها ويتحالف معها، خاصة أن مرسي وأهل جماعته برعوا منذ استفتاء 19 مارس في صناعة الكراهية واستخدموا على مدى عامين ونصف مع معارضيهم أقذر أسلحة التكفير والتخوين والطعن في الأعراض، وظلت ممارساتهم تلك تشكل عبئا متزايدا على كل من يؤمن بأفكار التعايش وقبول الآخر والتوافق، وكلها أفكار تحولت يوما بعد يوم إلى هدف للسخرية والشتيمة والأصوات الحلقية، إلى أن أُزهِقت روحها مع الأرواح التي أزهقتها سياسات مرسي وعشيرته.

 

الأخطر من كل ذلك أن الكراهية التي صنعها مرسي لم يعد ممكنا للأسف أن تزول فورا برحيل شخصه عن المشهد طوعا أو جبرا، بسهولة أو بعد عناء، فطالما ظلت جماعة الإخوان تتعامل بوصفها «الفئة الناجية والجماعة الربانية» التي يحق لها أن تفعل ما تريد كيفما تريد، ستظل كراهية عموم المصريين لها تتنامى وتتصاعد، وستشوه هذه الكراهية أرواح الكثيرين لتفقدهم إنسانيتهم وتزيد من استباحتهم لما كانوا يعتبرونه حتى وقت قريب محرمات لا يصح ارتكابها.

 

وستبقى نتائج تلك الكراهية العقبة الأخطر في سبيل بناء أي توافق وطني جديد كذلك الذي شهده ميدان التحرير في أيامه المجيدة التي باعها الإخوان وحلفاؤهم من أجل مكاسب سلطوية، مع أن كل مكاسب الدنيا لم تكن لتوازي أبدا فرصة تحويل «نموذج ميدان التحرير» قبل تشويهه عمدا إلى أسلوب حياة يتعايش فيه المصريون مهما اختلفوا عن بعضهم، وهو نموذج سنكتشف للأسف في المستقبل بعد خسارتنا للمزيد من الدماء والدموع والأرواح أنه كان ولا يزال وسيظل طريقنا الوحيد نحو الخلاص