نهاية الفقر! - مدحت نافع - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 9:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نهاية الفقر!

نشر فى : الإثنين 24 يوليه 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : الإثنين 24 يوليه 2017 - 9:35 م

فى كتابه الرائع «نهاية الفقر الإمكانات الاقتصادية لعصرنا» لصاحبه الاقتصادى الكبير «جيفرى ساكس» والذى صدرت له ترجمة حديثة هذا العام من مركز القاهرة لقياسات التنمية، يقدم الكاتب الكبير خلاصة تجربته العملية طوال سنوات عدة، ساعد خلالها الكثير من الدول النامية والمتعثرة للخروج من أزماتها الاقتصادية، والوقوف بثبات على طريق الإصلاح الاقتصادى الرشيد.
الاقتصادى «جيفرى ساكس» يقر فى مقدمة كتابه بأنه ظل حبيس النظريات الاقتصادية خلال السنوات الأولى لممارسته العمل البحثى فى مجال الاقتصاد، وكانت النماذج القياسية تقوده لوضع السياسات والتصورات، لكن الواقع على الأرض كان مختلفا للغاية، وكذلك التفاصيل الدقيقة التى عايشها بنفسه فى إفريقيا جنوب الصحراء، فى دول مثل مالاوى بقراها الصغيرة التى تنتشر فيها الأمراض والأوبئة، ودول فقيرة فى آسيا مثل بنجلاديش بعد أن خرجت لتوها من حرب الاستقلال عن باكستان، ودول أمريكا اللاتينية فى ثمانينيات القرن الماضى وهى تصارع أزمة الديون وشبح الإفلاس، ودول شرق أوروبا وهى تخرج بالكاد من عباءة الشيوعية بعد سقوطها قبيل بداية العقد الأخير من القرن الماضى.. فضلا عن كثير من الدول الكبرى التى انتشرت بها علامات الفقر والأزمات الاقتصادية مثل الصين والهند وروسيا.. وغيرها من دول استعانت بخبرات «ساكس» المتراكمة والتى جمعها عبر تاريخ طويل من الغوص فى تفاصيل الأزمات، والتشخيص الدقيق للأمراض الاقتصادية بعد فصلها عن الأعراض الظاهرة.
المؤلف فى استعراضه لأزمات اقتصادية عنيفة صاغها بأسلوب قصصى شيق، يبرز الدروس المستفادة من التجارب الدولية بسلاسة دون تكلف، يؤسس لفرع مهم من فروع التحليل الاقتصادى يقوم على أساس التشخيص الكلينيكى Clinical Economics، يوضح جوانب المسئولية التاريخية الملقاة على الدول المتقدمة والغنية لتمويل برامج الإصلاح الاقتصادى فى الدول الفقيرة، ومكافحة الفقر فى العالم الذى يراد له أن يكون خاليا تماما من الفقر قبل منتصف القرن الحالى. الكاتب فى تحليله للأزمات الاقتصادية ينظر إلى فخاخ الفقر الكثيرة بالدول التى تمر بتلك الأزمات. الفقر يورث فقرا، والمرض والجهل يقتلان فرص التنمية البشرية التى تقوم عليها سائر مقومات التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة. الركون إذن إلى النظرية الاقتصادية فى معالجة فخ الفقر غالبا ما يفشل، والحاجة المستمرة إلى المعونة الخارجية لانتشال تلك الدول من مستنقع الفقر المدقع أمر لابد منه. قد تأتى المعونة فى صورة مساعدات مالية، أو إسقاط كلى أو جزئى للديون وقد تأتى فى صورة معونة فنية.. أو هى خليط من هذا وذاك حسب الحالة وحسب الظروف والملابسات، لكن المؤكد أنه لا توجد وصفة سحرية تصلح لعلاج مختلف الأمراض فى كل الدول. العوامل الجغرافية مثلا تلعب دورا مهما فى تقييد الدول، وجعل اقتصادها رهنا بنمط معين للتجارة والنشاط الاقتصادى بصفة عامة. لا يمكن إغفال البعد السياسى والجيوسياسى أيضا، والتاريخ الطويل من العزلة الاقتصادية التى تخلق بدورها تعقيدات تستعصى على الكثير من خطط الإصلاح، كان ذلك واضحا فى تجربة «ساكس» مع روسيا وهى تحاول القيام كدولة مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى.
***
«بوليفيا» كانت فصلا مهما ومحوريا فى كتاب «ساكس». وكانت التجربة البوليفية للإصلاح والتى خاضها مبكرا فى حياته العملية دليلا له فى سائر مهامه. تعلم «ساكس» من بوليفيا دورسا عدة أبرزها البحث خلف الأسباب الحقيقية للأزمات، وعدم الركون إلى التشخيص الظاهرى للمرض الاقتصادى بما قد يتسبب فى وصفة خاطئة تزيد من حدة وأعراض هذا المرض. كان أبرز تحديات بوليفيا إلى جانب الفقر طبعا، التضخم الجامح الذى تراجعت معه قيمة العملة الوطنية «البيزو» أو «البيسو» أمام الدولار الأمريكى خلال الفترة من يوليو 1983 إلى يوليو 1985من 5 آلاف بيسو مقابل الدولار الأمريكى الواحد إلى 2 مليون بيسو للدولار!. التشخيص الدقيق لأسباب التضخم قادت المؤلف إلى وضع روشتة غير تقليدية لا تقوم على رفع معدلات الفائدة الاسمية لامتصاص السيولة وكبح التضخم، لكنها قامت على إعادة تسعير المواد البترولية بموازنة الدولة لتعكس التكلفة الفعلية والتى تعكس العملة المتضخمة عن تقديرها وتتحقق خسائر كبيرة للنشاط الاقتصادى الأهم فى البلاد.
كذلك عانت «بوليفيا» من أزمة مديونية خارجية كبيرة، أرادت مؤسسات التمويل الدولية وفى مقدمتها صندوق النقد الدولى تهيئة الظروف المالية والنقدية لبوليفيا كى تقوم بسدادها، دون اكتراث للتبعات الاجتماعية والسياسية لذلك، لكن «جيفرى ساكس» رأى ضرورة إسقاطها، وتحمل فى ذلك هجوما شرسا من مسئولى الصندوق وقادة الكثير من الدول المتقدمة، ظل يرافقه فى سائر مهامه التالية فى مختلف قارات العالم! ولا عجب فى ذلك لأن المطالبة بإسقاط ديون الدول التى تعانى من أزمات اقتصادية حادة كانت دائما حاضرة على مائدة «ساكس» وهو يصف «روشتة» الإصلاح، وكان التمسك بهذا المطلب على الرغم من المقاومة العنيفة له درسا مهما تعلمه عبر تاريخه العملى، وكان غالبا ما يوفق إليه فى النهاية بعد أن يرفض كلمة «لا» أو «مستحيل» كرد على مطالباته المتكررة لإسقاط الديون.
تاريخ الانعزال الروسى الحكم المستبد لألف عام كان علامة فارقة فى فهم الأزمة الاقتصادية لروسيا ما بعد الشيوعية، ومقاومة البرنامج الإصلاحى من الداخل المسئول، فضلا عن الداخل الشعبى والخارج المنوط به التمويل كان من أبرز تحديات التجربة الروسية التى صاغها «ساكس» فى كتابه بأسلوبه القصصى المعتاد.
مقاومة الفقر والتنمية المستدامة المرجو تحقيقها فى القرن الحالى، والتى تمت صياغتها فى صورة أهداف التنمية المستدامة فى تاريخ لاحق على تاريخ إصدار «ساكس» لكتابه، تستلزم تضافرا دوليا، وتحملا لأعباء التمويل من قبل الدول الكبرى والغنية، ولو على سبيل التنازل عن هامش ضئيل من تكلفة تمويل أنشطة التسليح والحروب التى تدمر الكوكب وتزيد من أعباء الفقر. التجارب الدولية التى خاضها مؤلف الكتاب علمته أن الساسة لا يفهمون تلك الحكمة على الرغم من وضوحها وإمكانية ترجمتها إلى أرقام صادمة. من أمثلة ذلك رفض الإدارة الأمريكية ومن ثم صندوق النقد الدولى الذى تتحكم فى إدارته لتحمل الدول الكبرى تكلفة تمويل خطط الإصلاح الاقتصادى الروسى ما بعد انهيار الشيوعية على الرغم من أن تلك التكلفة لم تكن تتجاوز نسبة ضئيلة جدا من التكاليف المباشرة ــ فقط ــ للحرب الباردة!. معضلة إسقاط الديون فى الحالات الحرجة، تركت بدورها أثرا مهما فى فهم الاقتصادى الكبير لبواعث مؤسسات التمويل عند الإشراف على خطط وبرامج الإصلاح الاقتصادى للدول الفقيرة. حجة مؤسسات التمويل الرافضة لإسقاط الديون تتلخص فى كون تلك الدول لن تستطيع الاقتراض بسهولة بعد إسقاط الديون لأن ذلك دليل على التعثر ويضعف التصنيف الائتمانى! لكن «ساكس» يرى العكس تماما.. يرى أن استمرار تلك المديونية ومحاولة سدادها على حساب الإصلاح الحقيقى للبلاد من شأنه مضاعفة تلك الديون وتراجع التصنيف الائتمانى للدولة حتما!.
***
نتعلم من الكتاب دروسا كثيرة، أهمها مرونة برامج الإصلاح، وقابليتها للترشيد وإعادة التوجيه باستمرار. نتعلم من اقتصادى كبير مثل «ساكس» إقراره بفشل مقترحاته أكثر من مرة، وغياب أبعاد وتفاصيل المشكلات الاقتصادية عنه مرات عدة وفى بلاد مختلفة. نتعلم أن عملية الإصلاح يجب أن تقوم على جهود مشتركة، وأن تستلهم التجارب السابقة، وأن تستفيد من الخبرات الدولية والمحلية فى عملية عصف ذهنى مستمرة، وأن أهداف الإصلاح للدولة يجب أن تكون فوق أية اهداف ثانوية لمؤسسات التمويل حتى لو كانت حاجة تلك الدولة كبيرة لهذه المؤسسات.
الكتاب مرجع مهم أتمنى أن يقرأه المسئولون عن برامج الإصلاح الاقتصادى فى مصر، وأرى أنه بسيط وممكن الفهم من قبل غير المتخصصين، لما فيه من قصص شيقة، وسرد تاريخى جذاب، وخبرات شخصية متراكمة، وشرح اقتصادى مبسط فى كثير من الأحيان.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات