رائحة العيد - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 3:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رائحة العيد

نشر فى : الخميس 24 سبتمبر 2015 - 10:35 ص | آخر تحديث : الخميس 24 سبتمبر 2015 - 10:35 ص

كان للحظات الأولى لصباح العيد فى «البلد»، قرية المحرص الكائنة بمركز ملوى فى جنوب محافظة المنيا وإليها تنتسب عائلتى، رائحة شديدة الخصوصية.

كنا، أخى أحمد وأنا، نستيقظ مع أبينا رحمه الله فى الموعد المحدد بدقة فى «ليلة العيد» لأداء صلاة العيد فى مسجد البلد الذى لم أعرف له اسما آخر غير جامع الشيخ عبدالنبى. سيرا على الأقدام وفى صحبة الأعمام وأبنائهم، كنا نغادر بيتى العائلة الواقعين على ترعة الإبراهيمية ونستدير غربا للدخول إلى قلب البلد الذى يقع به المسجد ونمر فى طريقنا بين طرقات وأزقة المحرص ونعبر بعض جسور القنوات الصغيرة.

وبعد انتهاء الصلاة، كان أبى وأعمامى ــ رحم الله ميتهم وأطال فى عمر العم الوحيد المتبقى لى ــ يعودون بنا من طرقات وأزقة أخرى تمر بداية على مخبزين عتيقين صغيرين، ثم على ساحة كبيرة نسبيا يتجمع فى جانب من جوانبها الترابية بعض الجزارين الذين يعرضون خدماتهم على المارة وتأخذ أماكنها فى جانب آخر به ثلاثة جميزات طاعنة فى السن وبألوان شديدة التنوع بعض «مراجيح العيد» ومن حولها مجموعات من الأطفال الذين كانوا فى أعمار متقاربة من أعمارنا – أصف ما كانت عينى تشاهده فى طفولتى منذ سنوات عديدة.

وقبل الصعود إلى بيتى العائلة، كنا كثيرا ما نتوقف عند «المنامة» ــ فى ذلك الوقت، مدفن جدى لأمى وجدى لأبى وجدتى لأبى – للزيارة وقراءة فاتحة الكتاب الكريم ــ وكانت هذه الزيارة الأولى للمنامة تتبعها عادة زيارة ثانية مع حبيبتى أمى رحمها الله واختى هبة فى النصف الثانى من يوم العيد الأول أو فى بداية يومه الثانى.

أما الرائحة شديدة الخصوصية التى أكتب عنها، فلم تكن تفارقنى منذ اللحظة الأولى لصباح العيد وحتى عودتى من جامع الشيخ عبدالنبى ومن الجولة التالية للصلاة إلى بيتى العائلة، وعندها كانت تهجرنى وتتسرب من بين حواسى دون مقدمات. حاولت مرارا سبر أغوار رائحة أحببتها لكى «أصنعها» كلما افتقدت استنشاقها، حاولت تجزئتها إلى روائح الأماكن المختلفة التى كنا نمر عليها فى صباح العيد لكى أقترب منها بالذهاب إلى ذات الأماكن فى صباحات أخرى، وفى المحاولتين لم أصب سوى الإخفاق.

نعم، كان لبيتى العائلة رائحة متميزة فى الصباح الباكر مصدرها «البتاو والعيش الشمسى والمنين والفايش» وغيرها من مخبوزات الصعيد. نعم، كان للإبراهيمية رائحة بديعة فى الصباح الباكر هى خليط من رائحة مياه النيل وندى الأرض الزراعية ونخيل المحرص الجميل. نعم، كان لطرقات وأزقة وجسور البلد رائحة أهلها الذين لم يتغير عمرانهم للمكان وعلاقتهم بالمياه والأرض منذ آلاف السنين. نعم، كنت أحب رائحة جامع الشيخ عبدالنبى، خاصة موضع «صندوق الندور»، واختزنها بكل حواسى خلال أداء صلاة العيد وأثناء الاستماع إلى الخطبة. نعم، كانت للمخبزين العتيقين فى رحلة العودة رائحة لا تقاوم بهجتها المراوغة – لكوننا كأطفال لم يسمح لى أبدا بالأكل فى الطريق، وكانت للجميزات المهيبة رائحة هادئة تأتى من بعيد لتسيطر لوهلة قصيرة على. نعم، كانت رائحة المنامة تهاجمنى قبل أن أصعد درجات سلمها لإلقاء السلام وقراءة الفاتحة.

غير أن رائحة صباح العيد لم تكن لا حصيلة تجميع كل هذه الروائح ولا خليطها المتداخل دون هوية تميزه، ولم تكن أبدا تقبل المقارنة بما توهمه عقلى مكوناتها أو ترضى محاولاتى البائسة للاختزال ثم التجزئة ثم التركيب ثم توهم الاقتراب. هى كانت حالة متفردة فى عمق الزمان المحدد والمكان المحدد وفى ترابط عضوى مع أهل البلد الذين لم تقدر لى مسارات الحياة معرفتهم عن قرب، حالة متفردة تستعصى على التكرار.

بين الحين والآخر، فى أماكن لا أعرف لها رائحة، أستيقظ مستدعيا لرائحة صباح العيد فى المحرص وشاعرا لوهلة بإحاطتها لكل حواسى.. إلا فى صباح العيد!

عيدكم سعيد.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات