اليهودى الذى أحرجنا - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:07 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اليهودى الذى أحرجنا

نشر فى : السبت 24 أكتوبر 2015 - 5:00 ص | آخر تحديث : السبت 24 أكتوبر 2015 - 5:00 ص

ربما تسأل ــ عزيزى القارئ ــ من هو اليهودى الذى أحرجنا؟ وماذا قال حتى يحرجنا؟ وأنا هنا سأنقل لك ما قاله ذلك اليهودى لعلك تحرج أو لا تحرج فهذا يعود إليك، يقول:
ــ «إذا كنت قد هجرت مصر فهى لم تهجر روحى أبدا»
وأيضا «مصر هى الأرض الأم» و يقول: «فى أحيان يخيل إلىَّ أن ظلى هو الذى غادر القاهرة، بينما بقيت أنا هناك وحيدا تائها كما فى شبابى....»
هذه الكلمات أتت فى رواية باللغة الفرنسية بعنوان «البلاد التى تشبهك» ليهودى مصرى يعيش فى فرنسا، وأنا لا أعرف الفرنسية لكنى قرأت عرضا للكتاب فى جريدة الحياة اللندنية بقلم الكاتب المتميز عبده وازن بتاريخ 12 أكتوبر 2015 بعنوان «الكاتب يهودى..والحنين مصرى» وكون أن الكاتب كتب روايته بالفرنسية فهذا يعنى أنه لا يهدف إلى إرضاء قراء العربية من المصريين أو غيرهم من الناطقين بالعربية، فقراؤه فرنسيون وإعلانه لهم غرامه وعشقه لمصر لا يهدف من ورائه أية فائدة، إنه تعبير تلقائى بما يجيش فى صدره نحو البلد الذى ولد فيه، أما الكاتب فهو طوبيا ناثان ويعد فى فرنسا من رواد «علم النفس الاثنولوجى» وهو الفرع الخاص بدراسة سلوك الجماعات الاثنية الحية والممتدة فى التاريخ التى تعيش فى مجموعات او مجتمعات منظمة بتصنيفها ودراسة عاداتها وتفاعلها مع البيئة المحيطة بها والجماعات المنظمة المشابهة لها والمختلفة عنها وهو معروف بأبحاثه الرصينة فى هذا المضمار، وهو بالطبع روائى وكاتب قصصى لكنه لم ينتج الكثير من الروايات أو القصص. ولد فى مصر عام 1948 ثم غادرها قسرا مع أسرته إلى فرنسا عام 1956 مع معظم اليهود المصريين بقرار من عبدالناصر وحصل على الجنسية الفرنسية ومن أهم أعماله«الاثنو ــ رواية».
***
يقول عبده وازن فى عرضه أن طوبيا ناثان كتب روايته الجميلة التى نحن بصددها بروح ذاتية ونفس غنائى فهى تحمل هاجس استعادة للمكان الأول الذى اقتلع منه واسترجاع اللحظات البهية، لحظات مصر الملكية، ولحظات حى اليهود القاهرى والحارات الشعبية الصاخبة بالناس البسطاء والطيبين والآخرين المتعجرفين، بالشحاذين والبائعين المتجولين وأصحاب البسطات (جمع بسطة التى بين سلالم البيوت) حيث يحلو لهم الثرثرة (يقصد سكان العمارة)... ويلقى الضوء على مرحلة الملك فاروق، فى صعوده وانحداره ثم يروى جوانب من ثورة الضباط الأحرار وارتقاء عبدالناصر سدة الرئاسة. بالطبع الرواية ليست تاريخية ولا سياسية، إنها رواية الحنين إلى مصر، مصر القاهرة والإسكندرية، جو الألفة الذى كان يجمع بين اليهود والمسلمين والمسيحيين المصريين فى الأحياء والحارات. يحكى روايته على فم راوٍ أسماه زوهار، وزوهار هذا وصل إلى سن الشيخوخة عجوزا يسأل نفسه «إن كان الموت قد نسيه» ثم يحكى روايته أو مذكراته بدءا من عام 1925؛ العام الذى تزوج أبوه ويدعى «موتى» من أمه إستر التى أصيبت فى شبابها بمرض نفسى جعلها فى حالة اضطراب فيقول: «ولدت فى بلاد الفراعنة من أم تسكنها الشياطين وأب ضرير، ماذا كان على أن أفعل بينهما هما اللذان يتحابان بجنون» ثم يحكى أنه فى مقتبل شبابه وقع فى حب جارته الصبية والتى تدعى «مصرية» وهى شقيقته بالرضاعة، فيعيش معها قصة حب تكون هى الأعمق والأقوى من كل قصص الحب التى عاشها بعد ذلك، إنها البيئة المصرية كما تجلت فى روايات طه حسين وإبراهيم المازنى ونجيب محفوظ ومحمد البساطى والفرنكفونى البيرقصيرى، إنها البيئة المصرية بجمالها الفطرى وروحها الشعبية وعاداتها وتقاليدها وأعرافها.
***
ربما تتساءل ــ عزيزى القارئ ــ لماذا أكتب عن هذه الرواية وهذا الرجل اليهودى الآن؟ أقول هناك هدفان من وراء ذلك؛ الأول هو أن نقرأ بعين عن اليهودى المصرى ونضع عيننا الأخرى على فلسطين الشقيقة التى تعانى من أشقاء طوبيا اليهودى المصرى الذين تصهينوا وأن هذا الرجل فى كتابه يعلن أنه يهودى مصرى غير صهيونى بل غير إسرائيلى أى لا يعترف بدولة إسرائيل وأنه يقف مع إخوته العرب ضد العنف الواقع على أرض فلسطين، وأنه يعيش معنا حالة العداء مع إسرائيل الدولة العنصرية الأصولية والتى على جبينها الدماء ــ على حد التعبير التوراتى ــ لقد احتلت أرضنا وطردت شعبنا، ونحن ومعنا طوبيا واليهود من أمثاله لن نتسامح معهم، وهذا يجعلنا نشعر بالندم على قرار طرد المصريين اليهود من بلادهم، بلا شك كانوا سوف يصبحون اليوم قوة لا يستهان بها فى إحراج الدولة الصهيونية وفى اثراء الحضارة المصرية برافد ثقافى مصرى يغنى الحضارة المصرية العربية ويوضح مدى استيعابها للتنوع فى منطقة تتقاتل شعوبها مع بعضها البعض بعد ان كانت نموذجا حضاريا لذلك التنوع بامتياز سواء أيام الخلافة العباسية قديما او حديثا عندما استقبلت اليهود الهاربين من اضطهاد أوروبا لهم على يد هتلر النازى ولم يجدوا مكانا يستوعبهم سوى منطقتنا. فى يوم الأحد 11 أكتوبر نقلت الفضائية الأمريكية C.N.N على الهواء مباشرة وقفة احتجاجية ترفض ممارسات صهاينة إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى تقودها سيدة فلسطينية وفى حديثها مع المراسل قالت انت ترى جميع الجنسيات تتضامن مع الشعب الفلسطينى يهود ومنهم رجال دين وأسيوين وأوروبين وأفارقة ولاتينيين، ثم ابتسمت ابتسامة باهتة وقالت ساخرة لكن العرب لم يحضر منهم أحد رغم كل الدعاوى التى أرسلناها لهم.
أما الهدف الثانى فهو الانتخابات البرلمانية وهى الاستحقاق الثالث فى الدستور، ونحن نرى مرشحين يشعر المصريون الحقيقيون معهم بالغربة فهم هوية مختلفة ترى أن المصريين العرب غير المسلمين مواطنون من الدرجة الثانية أهل ذمة لا يحق لهم أن تكون لهم ولاية فلا يرتقون للوظائف العليا، ينظرون للمرأة المصرية أنها لم تولد لكى تتعلم فالعلم للرجال فقط ولا يقفون تحية للعلم أو السلام الجمهورى، يعتبرون أن المثقفين المصريين الذين على شاكلة طه حسين ونجيب محفوظ كفار يستحل دمهم إنهم لا يعتبرون مصر وطنا لهم، وبهذا يشوهون الهوية المصرية.
***
عندما قدم عادل إمام وعمر الشريف فيلم «حسن ومرقس» كانت النكتة أنه فى الأربعينيات كان اسم الفيلم «حسن ومرقس وكوهين» واليوم حسن ومرقس فقط، فهل سيأتى اليوم الذى يكون فيه الفيلم بعنوان«حسن فقط» «الذى لا شريك له فى الوطن» .
إن رواية «هذه البلاد التى تشبهك» (دار سنوك ــ باريس) رواية مصرية بامتياز.. إنها رواية مصر الزمن الجميل، مصر التى أضحت فى حكم الذكرى لكنها الذكرى التى لا تنطفئ لها شعلة حتى تعود كما كانت وأفضل كثيرا كما تعودنا منها.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات