نيران المال السياسى - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نيران المال السياسى

نشر فى : الثلاثاء 24 نوفمبر 2015 - 10:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 24 نوفمبر 2015 - 10:55 م

قبل أن تكتمل الصورة الأخيرة للبرلمان شُرِخت شرعيته بتوحش المال السياسى فى انتخاباته.
بعض شروخ الشرعية لا يمكن ترميمها.
كان المشهد مبتذلا بأية معان سياسية وقانونية وأخلاقية أمام اللجان الانتخابية، حيث جرت مزادات شراء الأصوات بصورة تصعب مقارنتها بأية استحقاقات برلمانية سابقة.
فى انتخابات (٢٠١٢) ضخت جماعة الإخوان المسلمين وأحزاب إسلامية أخرى مالا سياسيا هائلا لشراء أصوات الفقراء بأجولة البطاطس وأكياس الأرز والعدس ورشى خفية، غير أنها لم ترسل سماسرة أمام اللجان بحثا عمن يبيع صوته والسعر يرتفع كلما اقتربت مواعيد إغلاقها.
فى كل الأحوال شراء الأصوات جريمة، غير أن الابتذال المفرط يؤشر على خلل فادح فى قواعد اللعبة السياسية.
حيث تراجعت الحياة السياسية وتقدم المال السياسى لملء الفراغ بشراء النواب والناخبين معا.
لم تكن هناك برامج سياسية طرحها المرشحون، ولا أفكار تجمع الذين تظلهم راية واحدة.
لم يحدث فى التاريخ البرلمانى المصرى أن وصل فقر الأفكار والتصورات والرؤى إلى هذا الحد المدقع.
ولا حدث أن تفاخر بعض المرشحين بأنهم لا يميلون للسياسة ولا يفهمون فيها.
الكلام بنصه يردده أعضاء بارزون فى الحكومة الحالية.
نحن أمام مأساة متكاملة الأركان، فتغييب السياسة مشروع انتحار مستعجل.
بمعنى أوضح، نيران المال السياسى سوف تلتهم أية قيمة فى هذا البلد.
أخطر ما جرى أن أحدا لم يحترم القانون ولا القانون وجد سلطات دولة تحترمه.
بافتراض حسن النية، تكاد لا تعرف لماذا ترشح نواب المال السياسى، وأنفقوا أموالا طائلة ببذخ إذا كانوا يضجرون من السياسة، وبعضهم لا علم حقيقيا له بطبيعة العمل البرلمانى الذى هو بالتعريف عمل سياسى.
غير أن شراء الأصوات بهوس يشكك فى فرضية حسن النية، بل ينسف ادعاءها من الأساس.
فلا أحد يشترى الصوت الواحد بما يقارب ألف جنيه فى بعض الحالات لكى يتفرج على أعمال البرلمان، وسوف يكون على أغلب التوقعات «فرجة».
إنها المصالح بالتأكيد.
أسوأ استنتاج ممكن أن المال السياسى يعتقد أن البيئة العامة قابلة للفساد والإفساد أكثر من أى فترة سابقة، وأن الدخول إلى البرلمان يراكم الثروات ويحصنها من أى حساب.
هناك فارق بين نزاهة الرئيس ونزاهة الحكم.
الأولى خيار رجل، والثانية طبيعة مؤسسات.
بصورة أو أخرى، سوف يدفع الرئيس فاتورة باهظة من سمعة نظامه تحت قبة البرلمان الجديد.
إن برلمانا يهيمن عليه المال السياسى مشروع فساد تشريعى يناهض أية قيمة للعدل الاجتماعى.
وهو لا يمكن أن يصون استقرارا فى بلد يئن تحت وطأة أحوال معيشية قاسية.
بمعنى آخر «نواب المال السياسى» عبء على الرئيس لا يحتمل، رغم أية ادعاءات بمؤازرته.
سوف يعملون بأقصى درجة ممكنة على تطويع الرئاسة لمقتضى مصالحهم، وإعادة إنتاج معادلة الولاء مقابل المصالح.
هذه حقيقة يمكن تلمسها بسهولة.
فى أية نظرة للمستقبل، لا يستبعد حل البرلمان إذا ما أفلت عياره إلى حد إثارة اضطرابات اجتماعية واسعة بما يهدد نظام الحكم نفسه.
الفوضى البرلمانية المحتملة تهدد البنيان العام للدولة، التى يفترض أنها لأول مرة منذ خمس سنوات استكملت مؤسساتها.
هذه كارثة سياسية تسبب فيها الذين هندسوا القوانين المنظمة للانتخابات، والذين جففوا السياسة لنصل إلى المنحدر.
هيبة مؤسسات الدولة عمل سياسى لا أمنى.
لا هيبة ولا أمن بلا غطاء سياسى.
بعد ثورتين لا أحد بوسعه أن يقف على أرض صلبة ما لم يتقدم إلى بناء دولة دستورية حديثة.
جذر الشرعية هنا بالضبط.
عودة أشباح الماضى إلى مقدمة المشاهد السياسية والاقتصادية والإعلامية كان طعنا مباشرا عند الجذور.
وقد أوحت باحتمالات إعادة إنتاج الماضى من جديد واختطاف «يونيو» كأنها ثورة مضادة.
عندما غابت الرؤية انفسح المجال واسعا أمام المال السياسى لملء الفراغ على طريقته الخاصة.
إذا لم تكن هناك قواعد صارمة تضرب مؤسسة الفساد عند جذورها فإنه سوف يتوحش ويصدر التشريعات التى تحمى تغوله ويدفع البلد إلى المجهول وربما عودة جماعة الإخوان المسلمين.
لا يمكن نزع مستقبل البرلمان عن الطريقة التى جاء بها ودور المال السياسى فيها.
مصطلح «المال السياسى» طالعه المصريون لأول مرة من النافذة اللبنانية.
عند صعود رئيس الوزراء اللبنانى الراحل «رفيق الحريرى» تردد المصطلح على نطاق واسع، فقد صاحب هذا الصعود ضخ عشرات المليارات من الدولارات فى المجتمع السياسى اللبنانى وداخل السنة على وجه الخصوص.
بقوة المال السياسى أزاح إلى الخلف عائلة سياسية عريقة فى صيدا التى ينتسب إلى أحد أسرها الفقيرة قبل أن يسافر إلى السعودية.
تمكن من مفاصلها على حساب أسرة «معروف سعد» التى تنتسب إلى عالم الصيادين، وتاريخها مشرف فى الدفاع عن المدينة والتحالف مع المقاومة الفلسطينية ضد أية عمليات عسكرية إسرائيلية بالجنوب اللبنانى.
بقوة ذات المال السياسى أزاح إلى الخلف العائلات السياسية السنية التى توالت على رئاسة الحكومات اللبنانية المتعاقبة.
غير أن ذلك كله ارتبط بمشروع سياسى فى الصراع على النفوذ والقوة بين السعودية وإيران.
بدا المشروع ببعض وجوهه مزعجا فى شراء المواقف وتعديل الاتجاهات، غير أنه لم يكن مبتذلا على النحو الذى رأيناه فى الانتخابات النيابية المصرية الأخيرة.
أسس «الحريرى» صحفا وفضائيات، وأرسل طلابا فى بعثات تعليمية بالجامعات الأمريكية والأوروبية، وتبنى مشروعات خدمية، واخترق جماعات المثقفين بصورة ناعمة.
هناك فارق بين مال سياسى أصحابه أقرب إلى العصابات المنظمة فى طريقة التفكير والأداء، ومال سياسى آخر له أهدافه ووسائله يعرف كيف يضفى على نفسه شيئا من الاحترام.
بكلام أكثر صراحة، لم تشهد مصر فى ذروة زواج البيزنس والسلطة على عهد لجنة السياسات التى كان يترأسها «جمال مبارك» نجل الرئيس الأسبق هذا المستوى المتدنى فى تجليات المال السياسى.
نحن أمام ظاهرة افلتت من كل عقال وأمعنت فى كل انتهاك.
الصورة بذاتها تنال من خريطة المستقبل كلها عند خطوط النهاية.
كما تسحب أية رهانات فى الإقليم والعالم على دور مصرى فاعل وموثر بأى مدى منظور.
فضلا عن إشاعة جو من الإحباط العام فى وقت نحتاج فيه إلى بث شىء من الأمل.
فى تغول المال السياسى على الانتخابات النيابية تساؤل عن القانون والقواعد.
إذا ابتذل القانون لمصلحة المال السياسى وديست القواعد تحت الأقدام، فكل شىء سيفقد احترامه وشرعيته.
أرجو التنبه إلى النيران الزاحفة قبل أن تلتهم أى أمل فى المستقبل، وتدفع البلد كله إلى المجهول.