عبقرية الثورة - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 10:14 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عبقرية الثورة

نشر فى : الأربعاء 25 يناير 2012 - 9:25 ص | آخر تحديث : الأربعاء 25 يناير 2012 - 9:25 ص

فى مثل هذه الأيام من العام الماضى كان كل مصرى ومعه العالم أجمع، يكتم أنفاسه ويعد الدقائق والثوانى مترقبا ما سوف تتمخض عنه حركة احتجاج تحولت فى لحظات إلى ثورة تصدرت جميع الثورات، فى مصر وفى مختلف بقاع العالم، وحققت فى أيام معدودات ما لم يكن يحلم به أحد، وأسقطت صرحا ظن بُناته أنه سيظل صامدا أبد الدهر، فإذا به يتداعى تحقيقا لمقولة أن الباطل كان زهوقا. وسوف يتوقف التاريخ طويلا أمام هذا الإنجاز غير المسبوق، ليستخلص منه عبرا أدركنا بعضها، ويكشف الكثير مما لم نلم به.

 

لم تكن فكرة الثورة غائبة عن أذهان كثير من المصريين الذين أضنتهم حياة يذوقون فيها الذل والمهانة، وهم يرون الوطن الذى بنى قواعد المجد عبر التاريخ وكان نبراسا يشع الحضارة ويبث الآمال فى نفوس أشقائه فى نطاقه العربى، ويحمل راية الحرية وإسقاط الاستعمار فى القارة الأفريقية وفى أرجاء العالم الثالث، رأوه يتداعى ويتحول إلى ما أسماه من أسلمته الأقدار زمام أموره «خرابة» دون أن تحمله بلادة الإحساس على أن يتوارى عن الأنظار ولو حفاظا على سمعة أدركته حينما ساهم مع أبناء هذا الوطن فى أعظم انتصار. وبينما ادعى أن كرامة المصريين من كرامة مصر، مرّغ كرامة مصر فى الأوحال ليهين كرامتهم.

 

وحينما كانت فكرة الثورة تداعب مخيلتهم كانوا يحجمون إشفاقا مما يمكن أن تتعرض له مصر من مخاطر من جرائها. كان أول ما يخطر ببالهم هو أن شرارتها سوف تنطلق من القاعدة التى اتسعت بشكل غير مسبوق لتنذر بتحول أفرادها من رعايا فى دولة القمع والاستبداد إلى رعاع ينطلقون فى الشوارع التى أصبحت لهم مأوى لا يجدون فيه ما يذود عنهم الفقر والحرمان. وخشوا أن يؤدى إسقاط النظام إلى وقوعه فى يد القوة الوحيدة المنظمة من بين القوى السياسية التى نجح ذلك النظام فى ترويضها، وهى تلك التى تسترت وراء شعار الإسلام فتهدد بأن تكون قبضتها أشد باستنادها إلى قدسية الفرض الدينى فى مواجهة الاختيار البشرى، ليحل التمييز بين الإيمان والكفر محل التفرقة بين الصواب والخطأ، وباستئثارها بصفة أهل الذكر.

 

ونعيش هذه الأيام معرض الكتاب فيعيد إلى أذهاننا معارض سنوات عديدة خلت كنا نلحظ فيها وفرة المعروض مما يصنف كمؤلفات إسلامية، وشدة الإقبال عليها، دون التدقيق فى مدى صحة معارف المؤلفين وسلامة نوايا الناشرين الذين وجدوا فيها مجالا للارتزاق من المتاجرة بالدين. وكان هذا يعكس مدى التردى الذى أصاب المؤسسة التعليمية والمنظومة الثقافية فى عالم أصبح القول الفصل فيه لقدرات الإلمام بالمعرفة ومواهب الإبداع والإضافة والابتكار.

 

●●●

 

وكان أروع ما تميزت به الثورة المصرية أن الذين أطلقوها شباب أحالوا الاستفادة من ثورة المعلومات والاتصالات، إلى التعبير عما يعتمل فى النفوس من مشاعر ويتجلى فى العقول من آمال، بعد أن كان الرأى السائد هو أنهم يقتلون الوقت فى حوارات لا جدوى منها وفى ألعاب تلهيهم عن شئون الحياة. وهكذا تجلت عبقرية الثورة فى أنها فتحت مجالا جديدا أمام لغة العصر تتعلم منه شعوب الدول التى أبدعت أدوات المعرفة ذاتها، وتفتح آفاقا رحبة أمام شعوب تعانى من انحطاط قدراتها المعرفية ومنظوماتها الثقافية.

 

كان الوجه الآخر لعبقرية الثورة هو سلميتها التى حققت ثلاثة أمور: الأول أنها كشفت الوجه القبيح للنظام القمعى القائم، ليسقط سقطته الكبرى التى أثبتت أن قوة إرادة الإنسان صاحب الحق أقوى من كل أسلحة البطش. الثانى أنها أزاحت المخاوف وأحيت الآمال فى نفوس الذين أصابهم اليأس من الثورة بالإحباط، فتزلوا إلى الشارع والتحموا بمفجّرى الثورة ليصبح الشعب «إيد واحدة». الثالث أنها وجدت صدى قويا فى نوعين من المجتمعات: تلك التى أضناها بطش النظم القمعية لتطلق العنان لما بات يعرف بالربيع العربى، وتلك التى كانت تتشدق بالديمقراطية وتستأثر لنفسها بالحق فى فرضها على الشعوب فتدمرها بآلة الحرب التى مزقت العراق وأفغانستان، أو بإغراء المال الذى ينحرف بمنظمات المجتمع المدنى عن الأولويات الوطنية إلى ما يوفر لها إمكانات التغلغل التى تمهد الطريق لخدمة أغراضها. وكشف هذا الوجه الحقيقى للديمقراطية التى تتآلف مع شراسة رأس المال، فتنادى بالتآلف الاجتماعى بينما هى تعمق الاستقطاب داخل الشعوب وفيما بينها. وهكذا رفع الجميع قبعاتهم لثورة الشباب المصرى الذى أثبت أنه جدير بمستقبل هو الأقدر على جعله باهرا.

 

وكأى ثورة يتعين عليها تحديد معالم نظام جديد يتخلص من مآخذ النظام المطلوب إسقاطه. وعندما قامت ثورة 1919 كان يكفى الشعب الغالب عليه الأميتان الأبجدية والسياسية أن يوكل مجموعة متنورة لتنوب عنه فى مواجهة المستعمر وبناء نظام سياسى وطنى. غير أن هذا ولّد مشكلة اجتماعية إذ استأثرت بالحكم فئة سعت إلى تكريس مصالح نصف بالمائة من المجتمع تمتلك الأصول الإنتاجية، الأراضى والمصانع، فأعادت ربط مصالح البلد بالاستعمار وأقامت نظاما برلمانيا يتحكم فيه القصر ومن والاه، فتعين نشوب ثورة تعيد بناء المجتمع لصالح الغالبية الكادحة من قوى الشعب العاملة. وأخضعت النظامين السياسى والاقتصادى لمتطلبات تدعيم البنيان الاجتماعى. غير أنه سرعان ما تغيرت التشكيلة الاجتماعية، وتستر النظام السياسى بشرعية الثورة، فتمكن قادته من إعادة التركيبة الاقتصادية على نحو يعيد إنتاج مجتمع النصف بالمائة على قاعدة ثقافية هزيلة أفرغت النظام النيابى من مضمونه، لنصل إلى وضع أجهز فيه على الثورة التى هى منه براء. وباعتقادى أن غياب القيادة التى تحتكر لنفسها فضل القيام بالثورة هو أهم عناصر عبقرية ثورة 25 يناير.

 

●●●

 

إن إعداد الساحة لبناء تنظيم ديمقراطى سليم مع بقاء الثوار فى موقع الرقابة عليه لا إدارته، هو الضمان الأساسى لتعامل الدولة مع قضايا متشابكة تتطلب مواصلة بناء النظامين السياسى والاقتصادى وفق متطلبات التضامن الاجتماعى. فما نعيشه الآن ليس مجرد ثورة تكنولوجية أو انتقال من الوطنية إلى الكوكبية، نتعامل معها فى إطار التمسك بهوية نبتت فى ظروف جد مختلفة. إن العالم كله يواصل البحث عن مفاهيم جديدة للدولة ومعالم مختلفة للاقتصاد تتوافق مع التغيرات الجذرية التى تمر بها البشرية، التى تجعل مقومات القرن العشرين سلفية سقطت بالتقادم فى عصر أصبحت فيه وحدة الزمن الفاعلة هى الفيمتوثانية. وأمام شباب الثورة فرصة للإبداع فى وضع أسس الرقابة الشعبية التى تنقل الثورة من المسيرات والاعتصامات إلى الرقابة والمحاسبة مراعية ترسيخ التضامن الاجتماعى الذى تعنيه المواطنة.

 

إن الأمر يقتضى دراسة أبعاد التغيرات فى بنية الدولة والاقتصاد فى العالم الجديد، وهو ما أرجو أن تتاح لى فرصة قريبة لطرح رؤيتى بشأنها.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات