الحب بوصفه ظاهرة وجودية وقيمة إنسانية - قضايا مجتمعية - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 10:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحب بوصفه ظاهرة وجودية وقيمة إنسانية

نشر فى : الأحد 25 فبراير 2024 - 8:15 م | آخر تحديث : الأحد 25 فبراير 2024 - 8:15 م
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب صلاح سالم، يوضح فيه العلاقة بين الحب والإيمان، فالمؤمن الحقيقى هو المحب للناس جميعا على اختلافاتهم، والمحبة البشرية أحد شروط الإيمان بالله. يقول الكاتب أيضا إن الحب يصنع المعجزات لدوره فى كشف قدراتنا التى نجهلها، كما تطرق إلى الحديث عن كيمياء الحب وهى النشوة التى تغمر الروح نتيجة الالتقاء بالمحبوب... نعرض من المقال ما يلى:
فى الحادى عشر من هذا الشهر (فبراير 2024) احتفل كثيرون، فى بقاع مختلفة من العالم بـ«عيد الحب»، الذى تروى قصص كثيرة عن نشأته، بعضها يحمل «تيمات» أسطورية، لا نسعى هنا إلى استدعائها، بل نحاول مقاربة تلك العاطفة المحتفى بها، وما تنطوى عليه من أبعاد وجودية تكاد تجعل منها كيمياء كونية، فهى لاصق روحى، ينطوى على جل العواطف السامية، ومن بينها عاطفة الإيمان الدينى نفسه، التى لا تعدو أن تكون تنويعة على لحن تلك العاطفة الكونية؛ فكون الله مطلقا اعتقاديا، يفرض المحبة البشرية (مطلقا أخلاقيا)، حيث الإيمان والحب يصدران عن نبع واحد، يتطلبان تطهيرا نفسانيا، ويفترضان سموا روحيا، مع تباين فى ذات المحبوب الذى تتوجه إليه العاطفة، فهى الذات الإلهية/ المطلقة فى حال الإيمان، والذات الإنسانية/ العادية فى حال الحب.
لذا يصبح المؤمن الحقيقى هو الأقدر على تمثل مشاعر الحب، فيعشق الناس والكون، امتنانا لخالقهما العظيم. كما يصير المحب الصادق هو الأقدر على اكتساب روحانية الإيمان، ففى الحب سر قدسى يكاد يشبه نشوى المتصوفة: فناء الهندوسى فى روح البراهمن الخالدة، دخول البوذى إلى عالم النيرفانا الساكن، استواء الكونفوشيوسى على طريق الجين القويم. ولعل هذا يفسر لنا كيف أن المؤمنين حقا يحبون الناس جميعا، ولو كانوا على غير دينهم، وأن المؤمنين زيفا يسعون إلى تدمير غيرهم ولو كانوا على دينهم؟ ولماذا شهدت عقود التأسلم العنيف فقرا حضاريا كاملا، وذبولا عاطفيا واضحا؟ فمن يؤمن بالله حقا لا بد وأن يحب الإنسان فعلا، ومن يتنكر للإنسان فعلا إنما يتنكر لله حقا.
• • •
وإذ تصبح المحبة البشرية هى الصمغ الضرورى للوجود الإنسانى، ويصير الإيمان بالله مشروطا بمحبة الإنسان؛ فكل سلوك يؤلم الآخرين أو يهدر العمران، لا يمكن أن يصدر عن أمر إلهى، لأنه شر وجودى، والله لا يأمر بشر قط. قد يقبل الله أخطاء الإنسان على أنها شر طارئ، ينتج عن ضعف الإنسان وضغط الحواس، يمكن تجاوزه بالاستقامة من جديد، ما يجعل من شره مجرد انحناء عرضى فى صيرورة وجوده. هذا الفهْم تسنده الشريعة الإسلامية، مثلا، عندما تحدد مقاصدها العليا فى صوْن الحرمات الخمس الأساسية وهى: النفس والمال والعرض والعقل والدين، لا يجوز لأحد النيْل منها تحت أى مسمى، ومن نال منها يحرم عليه الغفران الإلهى، فالله يغفر كل خطايا الإنسان مهما عظمت فى حق ذاته العلية، عدا الشرك به، لكنه لا يغفر خطايا الإنسان فى حق آخر، إلا إذا سامحه، كما أنه لا يطلب من أحد عقاب أحد على الشرك به، فهذا شأن خاص به بينما يطالب الحكام والقضاة بتحقيق العدل بين الناس على الأرض عبر القصاص، ولو أدى القصاص إلى موت بعض الخاطئين جزاء ما اقترفوا من ذنوب. وهكذا يقيد الله غفرانه للإنسان بتسامح المظلوم، لأنه يعلم بحكمته كم تؤلم تلك الخطايا البشر الضعفاء. أما هو ــ جل شأنه ــ فلا يتألم من شىء، بل يملك من القوة والجبروت ما يستطيع به أن يجبر الإنسان على طاعته، بل وأن يحيله ملاكا يسبح بحمده ويطوف فى فلكه، لكنه أراد له أن يبقى إنسانا مريدا، وإن كان خطاء، يسعى إلى الله بروح المحبة لا قوة الإرغام.
ينبثق عن مفهوم المحبة البشرية بهذا المعنى الواسع، ظاهرة الحب الرومانسى، تلك العاطفة بين الرجل والمرأة، المفترض منها، حال صدقها، أن تغير فى كيانهما معا. فالقيمة الكبرى للحب تكمن فى قدرته على إخراجنا من كهف الوحدة وأسر الذات، وإدماجنا فى الوجود الرحيب، بحيث نتعامل مع الآخرين كذوات حية وليس كموضوعات، بل ويدفعنا إلى التعامل مع الجمادات نفسها على أنها حية. ولذا كان الحب دوما فعلا أخلاقيا وسلوكا نبيلا يقدره حتى أولئك الذين لم يجربوه، لأن ثمة شعورا لديهم بأن فى صدور المحبين، يقبع شىء جميل وخير، يستطيع تخليصنا من أسر الكراهية والحقد، وتحريرنا من قسوة العنف والشر، كى لا تصير دنيانا مقتلة كبرى للروح أو مقبرة ضيقة للجسد.
يصف البعض الحب بالأنانية المقنعة، فالمحب الذى يتألم لفراق محبوبه، إنما يتألم لنفسه التى فقدت امتدادها، والعاشق الذى يحرص على وصال معشوقه، إنما يعكس رغبة فى تملك جسده. غير أن هذا التصور يبدو متشائما جدا، لأن حب الذات حقيقة تتخلل كل العلاقات من دون أن تنفيها. فحتى علاقة الأمومة، أسمى العلاقات الكونية، مسكونة برغبة المرأة فى توكيد ذاتها الأنثوية. غير أن هذا لا ينفى مفهوم الأمومة. ولا شك فى أن بعض المحبين أنانيون، لا تعدو قصصهم حكايات صغيرة وتافهة، لكنْ ثمة عشاق حقيقيون، حكاياتهم أكبر وأعمق، حتى أنهم يغلقون دنياهم على ذكرى محبوبيهم، ويقصرون رغبتهم فى التواصل على الأشياء المنتمية إلى عالم المحبوب، التى ربما لمسها بيده أو رمقها بعينيْه، إذ يشعرون معها بامتداد ودفء لا يجدونهما وسط الآخرين. فالذكريات الجميلة، ولو كانت بعيدة، تحيط المحب بأطياف دافئة، تعانقه على الدوام وتحول دون شعوره بالوحشة والغربة.
• • •
يشعر العاشقون وكأنهم يسيرون فوق السحاب، وهو ما يفسره العلم الحديث بوجود كيمياء خاصة للحب تبدأ تفاعلها بالتقاء العيون وتلامس الأيدى وتسرى إلى الدماغ على نحو يبعث النشوة فى روح الإنسان وجسده. كما يربطون بين الحب والأمل، قائلين مع القديس بولس «المحبة تؤمن بكل شىء وترجو كل شىء»، ومع الكاتب الفرنسى ستندال: «الحب نصف الحياة، بل النصف الأجمل فيها». غير أن الحب لا يعنى أن يرفل المحب فى سعادة أبدية وأمل دائم، بل ربما صار الحب نفسه بابا للألم، عندما ينقضى باختفاء المحبوب أو يذبل بصده، فعندها يشعر المحب وكأنه لم يعد شيئا فى هذا العالم بعدما كان كل شىء فيه. لكن الألم المتولد عن الحب يبقى خيرا من افتقاده. فالحب، كالإيمان، ضرورة بشرية لملامسة قلب الوجود الدافق. وإذا كان وقوع المؤمن فى المعصية لا ينفى أهمية الإيمان، فإن شعور المحب بالألم، لا يقلل من جدوى الحب. فى الإيمان تنهض التوبة بتجديد العهد مع الله، وفى الحب يقوم النسيان بمد الجسور مع الكون.
يتبدى المحب رقيقا هادئا، ولكنه ينطوى جوهريا على قوة مضاعفة وصلابة واضحة، تتغذى على ذات المحبوب، وتنمو بامتداده؛ لذا فإن الحب يصنع المعجزات حقا، لو أحسنا فهْم المعجزة باعتبارها إرادة الإنسان نفسه عندما تبلغ ذروتها. فالحب عامل تفجير للإرادة، يكشف للإنسان حدود قدراته التى كان يجهلها. وفى المقابل، يدفعه إلى الرضا عن حظوظه وأقداره، لأن امتلاءه الداخلى وسموه الوجدانى يقللان من حاجته إلى الأشياء الخارجية كالمال والسلطان، فيبدو غنيا جدا وقويا جدا من دون ثروة أو سلطة، لأن مركز إلهامه ينبع من داخله، وقوة حضوره تتركز فى ذاته، وليس فى ما يحيط بها؛ لذا يبقى تأثير هذا المحيط عليه ضئيلا، إذ لا يمكن للآخرين أن ينتزعوا منه شيئا عزيزا عليه، فيما هم لا يرون هذا الشىء ولا يمكن أن يلمسوه، ومن ثم يتألق وجوده فى العالم.

النص الأصلى
قضايا مجتمعية قضايا مجتمعية
التعليقات