هل تراجع دور الأسواق المشتركة؟ - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:12 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل تراجع دور الأسواق المشتركة؟

نشر فى : الإثنين 25 مايو 2015 - 8:45 ص | آخر تحديث : الإثنين 25 مايو 2015 - 8:45 ص

حينما أراد الأوروبيون تفادى تكرار الحروب التى استنفدت مواردهم وأفنت شبابهم وتحولت إلى حرب عالمية فى 1914، نادى بعض المفكرين بإقامة دولة عالمية اتحادية world federalism فيما بينهم وتضم بالتبعية البلدان الضعيفة التى استعمروها. غير أن التباين بين الأسس الثقافية والاجتماعية عاق هذا الطموح، ففضلوا التمهيد له بالتدرج من مجالات لا تمس السيادة الوطنية يسهل الاتفاق على توحيدها فيزداد الاقتناع بجدواه فى باقى المجالات. فحصروها فى النطاق الإقليمى، بدءا من التكامل الإقليمى التجارى مع مواصلة فرض قيود على إنتاج المستعمرات والتبادل معها. غير أن الأمر اقتضى مزيدا من التقدم فى هذا الاتجاه فى أعقاب الحرب العالمية الثانية 39ــ 1945 خاصة بعد إنشاء مؤسسات عالمية للتعاون الدولى فى مقدمتها هيئة الأمم المتحدة. وتطور الاستعمار إلى صيغة غير مباشرة سمحت باستقلال المستعمرات ومواصلة ربطها بها بأدوات تجارية ومالية، مع تقييد حركة البشر. وأيدتها الولايات المتحدة ليسهل تعامل عابرات القوميات لديها معها ككتلة واحدة.

وهكذا اتفق على التوجه إلى تكامل وظيفى يسترشد بتجربة الاتحاد الجمركى الألمانى (زولفرين) الذى أدى لتوحيد ولايات الرايخ الألمانى فى منتصف القرن التاسع عشر. وميزوا مراحل متتابعة تبدأ بإقامة منطقة تجارة حرة تتفق الدول الأعضاء على قرارات تتخذها سلطاتها، فيشجع الشعور بفوائدها على الارتقاء بها إلى اتحاد جمركى تنشأ لإدارته سلطة إقليمية، ويشجع فيما بعد على تحرير انتقال عناصر الإنتاج (رأس المال والعمل) للاستفادة من الفرص التى تمكن من التوسع فى الإنتاج فى كل من الدول الأعضاء. ويتبع ذلك توحيد النقد. ويشجع تقارب المستوى الاقتصادى على الوصول إلى وحدة اقتصادية كاملة، وهو ما ظلت الدول العربية تنادى به منذ 1954 واتفقوا فى 1957 على إقامة مجلس للوحدة الاقتصادية للدول السبع المستقلة لم ير النور إلا فى 1964 بمسعى من الكويت لتعزز استقلالها فى مواجهة محاولة العراق ضمها إليه، وهو ما يعنى أنها رأت فى ذلك تعزيزا لاستقلالها لا مقدمة للاندماج. واستمر العرب خمسين عاما يجاهدون لتفعيله وحددوا له أخيرا 2020 موعدا لإقامة اتحاد جمركى. إلا أن الربيع العربى أدى إلى تصارع بين دولهم، والتفتت فى داخلها. واتخذت الدول الرأسمالية المتقدمة من آليات التجارة والنقود وتحرير انتقال رأس المال ثم الخدمات أدوات للسيطرة على اقتصاداتها معيقة نموها الاقتصادى واستكمال مؤسسات دولة مستقلة، قادرة على التخلص مما فرضه الاستعمار عليها من تخصص فى إنتاج الخامات وحرمانها من الدخول فى صناعة السلع الإنتاجية والرأسمالية.

وأصبح التساؤل واردا عن جدوى آلية السوق المشتركة ليس فقط بالنسبة للعرب بل أيضا لأقاليم أخرى سعت لمحاكاة التجربة الأوروبية فى تحقيق وحدتها الاقتصادية التى مكنتها من استيعاب الدول التى تفتتت إليها المنظومة الاشتراكية منذ 1990. وأصبح التساؤل ملحّا فى مواجهة متطلبات الطور الثالث الذى سبق أن أشرنا إليه وما يترتب عليه من تغيرات فى مواصفات مكونات المجتمع مع تراجع قدرة حدود الدول على عزل الشعوب عن بعضها: فالأفراد أصبحوا قادرين على اجتيازها للتواصل والتعامل الاقتصادى عبرها، والاقتصادات زاد تشابكها عما حققته الصناعة فى الطور الثانى وساهمت السوق المشتركة ثم الموحدة فى تعزيزها ومواصلة تقدمها. كما عزز سيطرة المعرفة وما تعنيه من توسع مستقبلى على رأس المال المادى وتراكمه الماضى. وتبع ذلك تراجع دور الدولة عن السيطرة المباشرة على أجهزة الإنتاج ليركز على دعم قدرات البشر على الابتكار والإبداع. وساد الاعتماد على تعاون مجموعات تشاور بين الدول المتقاربة فى مستويات التقدم، كمجموعة الثمانى والبريكس ومجموعات لدول أقل تقدما.

•••

وبالنسبة للوطن العربى دفع الانشغال بقضايا دينية تنادى باستعادة الخلافة التى اعتبرت إبان قيامها البلدان التابعة ولايات ترتبط بها عن طريق الخراج والجزية وجلب الحرفيين المهرة، وإقامة العدل ولم تسع إلى رعاية اقتصاداتها بل منحت رعايا الدول الأوروبية امتيازات لتستغلها. ورافق ذلك ظهور تشكيلات إرهابية تتسلط على الأفراد ولا تتردد فى إزهاق أرواحهم، متجاهلة أن الله جعل الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا، وهو ما يعنى تأكيد استمرار اختلاف اجتماعى وقاعدته الثقافية التى يطورها أفراد المجتمع وفق تمازج بين المقومات البيئية التى تفرضها التباينات الجغرافية (وهو ما اعتمد عليه جمال حمدان فى توصيفه لشخصية مصر) والتراكمات التاريخية والتطور الحضارى دائب التغير وازدادت سرعة تطوره بقدر هائل فى المرحلة المقبلة.

وبعد أن كان أنصار الوحدة العربية يعتبرون الإسلام ووحدة اللغة التى حافظ عليها بحكم عروبة القرآن والتشديد على عدم تحريفه رافدا لتقاربها، أدى الانطلاق من العقيدة الدينية واللجوء إلى التفسيرات أو ما يسمى الأحكام الإسلامية إلى تحويل حركة المد الوحدوى العربى عن توجهها المستقبلى وإيقاف عجلة حركة التطور التى عجزت عن استيعابها عقول غابت فى أغوار الماضى واستعصى عليها مواكبة التطور الحضارى. واستغلت القوى المعادية لتوحد العرب هذا التوجه لمنعهم من بناء دولة وحدة فى منطقة ظلت على مدى التاريخ تمثل مركزا للاتصال بين أنحاء العالم القديم وباتت مؤهلة لمساعدة الجنوب الأفريقى والشرق الآسيوى على التخلص من هيمنة الدول الرأسمالية على مقوماتها.

وإذا كان بناة الوحدة الاقتصادية الأوروبية توقعوا بناء الوحدة الاقتصادية على النحو المذكور يؤهل لاختتامها بوحدة فيدرالية فإن الدستور الذى صيغ لهذا الغرض أخيرا لم يلق قبولا من بعض دول الإقليم، واستمر التباين فى مستويات التقدم بشمال القارة وجنوبها سائدا، كما أن الانشغال بضم الدول الاشتراكية حتى لا تعود إلى نظامها الاشتراكى يشكل عائقا أمام الهدف المنشود. وتم الاتفاق على معاملة الشؤون الأمنية والعلاقات الخارجية بصورة منفصلة، وهى من الأمور ذات الأهمية البالغة للدول النامية وبخاصة العربية.

وذهب بعض المفكرين العرب إلى أن اختلاف تركيبة عناصر الإنتاج يدفع إلى الإسراع فى إتاحة حرية انتقال الأفراد ورؤوس الأموال على عكس ما يقضى به المنهج الوظيفى، ولكنه فشل لأن الدول النفطية محدودة السكان ارتبطت مصالحها المالية والتجارية بباقى العالم. فضلا عن ذلك فإن تركيبة اقتصادات الدول العربية كانت متشابهة فى قصورها عن توفير مقومات التكامل الاقتصادى، لأن اعتمادها على القطاعات الأولية عاق استكمال بنية اقتصادية تتمتع بتشابك اقتصادى تتميز به الصناعة والقدرة على إنتاج السلع الرأسمالية، ومن ثم ظل انتقال رأس المال فى صورة نقدية يقود إلى مزيد من تحويل مدخراتها إلى الدول المتقدمة للحصول على المعدات الرأسمالية ويتيح للدول المتقدمة التحكم فى فنون الإنتاج بما يخدم اقتصاداتها. والأخطر من هذا أنه أدى إلى استمرار تحكمها فى نوعية المعدات الحربية مما يفيدها فى تنمية اقتصاداتها ولا يمكّن العرب من مواجهة أعدائهم، لتظل إسرائيل مهددة أمنها وعائقة لتقدمها. يضاف إلى ذلك استخدمت المنظمات الاقتصادية الدولية لفرض ما يدعى برامج إصلاح اقتصادى على حساب الاهتمام ببناء البشر وإكسابهم المعرفة، مما دفع منظمة العمل الدولية للمطالبة بإصلاح بوجه إنسانى.

•••

وهكذا أثبتت التطورات الأخيرة فشل الاعتماد على قوى السوق المحلية والمشتركة عن تلبية تطلعات الدول العربية. من جهة أخرى فإن سيطرة المعرفة على التقدم فى المرحلة المقبلة أضعفت أهمية الأسواق، وبات فى إمكان الدول الفقيرة فى رأس المال الاعتماد على ما تنجح فى توفيره للأفراد من قدرة على اكتساب المعرفة وتوجيهها إلى الابتكار والإبداع، فلجأت الدول المتقدمة إلى أسلوب التعهيد لتستغل البشر النابهين لخدمة احتياجاتها وتصرفهم عن تنمية أوطانهم. وعلى استراتيجية التنمية لمصر والدول العربية اعتماد سياسات متكاملة للمعرفة لتصحح استخدام فوائضها المالية وتهيئ لتكامل اقتصادى سليم.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات