فى بيتنا حياة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:14 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى بيتنا حياة

نشر فى : الأربعاء 25 مايو 2016 - 10:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 25 مايو 2016 - 10:30 م

قد تكون من أكثر العبارات التى سمعناها من والدينا فى صغرنا وبتنا نرددها عند الكبر هى تلك المتعلقة بترتيب المكان من حولنا، حتى إنه يبدو لى أحيانا أن العبارات تخرج منهم ومنا بشكل آلى، دون أن تكون مقنعة لمن حولنا تماما كما لم تكن تقنعنا بضرورة أن نضع الحذاء فى مكانه، أو ضرورة أن نرتب السرير فى الصباح.

 

***


لكل منا طريقته فى التعامل مع المكان، فمنا من يفضل حشد ما يحب من حوله، فنجان القهوة وثلاثة كتب، بالإضافة إلى لحاف صغير، والكمبيوتر المفتوح والشاحن، ويضع قربه علبة نحتاج أن نفرغ محتواها يوما ما ونرمى ما لا حاجة لنا به، نرى أيضا مجموعة أقلام قرب الدفتر حتى لو إننا نستعمل فقط القلم الأزرق، هناك أيضا ألبوم الصور الذى يجب أن نعيد ترتيبه، دون أن ننسى النظارة الإضافية وطبعا جهاز التحكم عن بعد للتلفزيون، فهو يكاد يختفى تحت الخريطة المفتوحة التى تبين لنا مكان الحفلة التى دعانا إليها صديق بمناسبة توقيع كتابه الثانى، غير أن التوقيع فات عليه أسبوع والخريطة ما تزال هنا. كل ذلك قد لا يزعج من يتعاملون مع الفضاء من حولهم على أنه تجسيد ليومهم أو لحياتهم كما هى، لا يزعجهم امتلاء المكان بأشياء يفترض أنها من أماكن أخرى فى البيت. أما بعضنا الآخر فقد يتكهرب من أى شىء يخرج عن الصورة التى رسمها للمكان حين تصوره كاملا، فلكل شىء مكان محدد: الكتب مكانها على الرف وليس على الطاولة، وإطارات الصور قرب التلفزيون وليست فوقه أو تحته، المعطف معلق خلف باب الدخول، المخدة فوق السرير وأوانى الطعام فى المطبخ، حيث يجب أن تكون بحسب لائحة النظام الداخلى غير المكتوبة ولكنها معروفة لدى أهل البيت من كثرة الترديد.


أنا من الفئة الثانية، الفئة التى لديها مخطط واضح فى عقلها وفى تصورها عن أماكن الأشياء والتزام شديد باحترام الخطة، فكثيرا ما كان زوجى يعاتبنى نصف مازحا أنه لم يكن قد أكمل فنجان القهوة قبل أن آخذه إلى المطبخ، فأرد عليه نصف جدية أنه لم يرتشف منه شيئا فى النصف ساعة التى مضت وبالتالى فهو قطعا قد انتهى من شرب محتواه. إلا أننى أعترف أننى بدأت أخيرا أن ألاحظ أن لعبة طفلى المختبئة تحت الطاولة تذكرنى بصوته وهو يلعب مع ابن الجيران، وحين أرى فى شنطة يدى حلوى أخبأتها من طفلتى حتى لا تأكل الكثير من السكر، أبتسم وأنا أتذكر عينيها اللامعتين.


***


تنازلت فى البضع سنوات الأخيرة عن بعض من صرامتى فيما يتعلق بالتحكم بالفضاء من حولى، فسمحت لتلة من الكتب أن تتسلل خارج الرفوف وتبنى لنفسها بيتا على طاولة صغيرة، ووجدت أوراقا إدارية كثيرة على طرف المكتب حيث تنتظر أن أقرر مصيرها، إما أن أضعها فى ملف أو أنهى حياتها بزجها مع أخريات من نفس الفصيل داخل مصقلة الورق. وجدت نفسى أفكر فى معنى أن تكون الأشياء فى غير مكانها الذى حددته أنا، هى تدل على أن هذا البيت مسكون، تنبض فيه حياة ناس أحبهم، فيترك زوجى نظارته دون أن يطويها فوق الكتاب المفتوح لأنه سيعود بعد قليل، ومربى المشمش الذى دخل منذ دقائق من الشمس فى الشرفة موضوع على طرف طاولة المطبخ حتى يتماسك تماما قبل أن تضعه والدتى فى المطربان الزجاجى، أى أنها أيضا ستعود بعد قليل، أما لعبة الشطرنج فبقيت فى غرفة المعيشة كما تركها والدى وهو يعلم حفيده، ابنى الأكبر، قواعد اللعبة قبل أن يقررا النزول لشراء بعض الأشياء، أى أنهما سيعودان بعد قليل.


***


أفكر فى علاقتنا بالأشياء وأنا ألاحظ بعض الأطباق فى المطبخ وقد فقدت أجزاء صغيرة من أطرافها من الاستخدام المتكرر، أنظر إلى زاوية السجادة فأراها بدأت تتآكل قليلا مكان مرورنا المستمر حين ندخل إلى الغرفة ونخرج منها، خشب أرفف المكتبة فقد شيئا من بريقه من كثرة سحبنا للكتب، وقماش الكراسى اهترأ قليلا فى الأماكن التى نجلس دوما عليها، فلكل واحد فى البيت مكانه المفضل وبعض الأماكن لا يجلس عليها سوى الضيوف. فى البيت تبقى أرواح من يسكنون فيه معلقة تغير ببطء من شكل محتواه. لم أعد أريد بيتا كل أشيائه فى أماكنها لأننى أعرف الآن أن ضحكة من أحبهم ترن داخل كأس الشاى الزجاجى، ودفء عواطفهم تركت انطباعات على الجدران فلم يعد الجدار برونق السنة الأولى لكنه مشبع بقصص سمعها منا فللحيطان آذان أليس كذلك؟ أشياء الطفلة جاءت لتضيف لغرفة كانت حتى العام الماضى غرفة صبيانية فيها سيارات فصار الآن فيها فستان صغير.


***


أريد أن تأكل الشمس من لون القماش على الفرش وأن أتذكر أن البقعة التى اجتهدت لإزالتها ولكنها تركت أثرا صغيرا على السجادة كانت من احتفالنا بعيد ميلاد أخى الثلاثين حين وقعت قطعة الحلوى من يد أحد الضيوف. فى بيتنا حياة تترك آثار أفراحها وأحزانها علينا، تغير من رتابة خططنا وتحرك أشياءنا لتكمل مرورها حول الجماد. فى بيتنا حياة حين أرى كتابا وقع خلف السرير فأتذكر يوم قرأته قبل النوم، وأرى أن طقم الفناجين لم يعد كاملا دون أن أتذكر أين ذهب الفنجان الناقص. تفاصيل تدل أننا لم نمر من هنا فقط إنما نعيش هنا، فيعيش معنا البيت.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات