قضية النقل والحركة والمرور - سامح عبدالله العلايلى - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قضية النقل والحركة والمرور

نشر فى : الإثنين 25 يونيو 2018 - 9:45 م | آخر تحديث : الإثنين 25 يونيو 2018 - 9:45 م

بمناسبة تكرار الحديث الممل عن حل مشكلة المرور، فإن التساؤل المنطقى الذى يتبادر للذهن هو هل يمكن بالفعل تحقيق هذا الهدف منفصلا عن إصلاح عميق وعريض لقضايا العمران بشمولها.. ثوابتها ومتحركاتها؟
كيف يتأتى الأمر إذا كان العمران المصرى يعانى داخل الكتل العمرانية متنوعة الأحجام والمواقع من حالة تضخم عشوائى وفوضى عارمة فاقت كل الحدود حيث تمثل شرايين الحركة التى هى شرايين حياة البشر، بما تحتويه من وسائل متنوعة للنقل والحركة أهمية قصوى لاستمرار المجتمع فى الحياة والتعايش بتداخلها المتشعب فى مكونات هيكل البنيان العمرانى المجتمعى بمستوياته الثلاثة القومى والإقليمى والمحلى.. بدءا من الأنوية العمرانية متناهية الصغر فى النجوع والقرى ووصولا إلى التجمعات الأكبر فى الحضر والمدن.
ولأن استقرار جماعة من البشر فوق حيز محدد من الأرض يجب أن يحكمه إطار عام يحدد العلاقة فيما بين الاستخدامات والأنشطة المختلفة من جهة ومن جهة أخرى أعداد البشر المستوطنة، بحيث يحتل كل منهم موقعه المناسب دون الجور على الآخرين، وحتى تتوازن المنظومة مع بعضها البعض فى تناسق مما ييسر حياة البشر ويحقق لهم الاستقرار والأمان.
ولتحقيق كل ذلك فإنه يجب أن يكون هناك من يخطط بعقلانية لتنظيم هذه العلاقات المتشابكة، كما يجب أن يكون هناك من يدير بحكمة وأمانة وحرفية منظومة التناسق الفعلى على أرض الواقع، ويتوقف نجاح تنسيق هذه المنظومة المركبة على قدرة من يخطط ومن يدير، فإذا حدث العكس فإن المردود هو اختلال فى العلاقات المتبادلة بين مكونات العمران يبدأ على استحياء ثم يتحول بمرور الوقت وفى غياب تدخل عقلانى للعلاج وبمرور الزمن إلى داء مزمن يؤدى إلى تفسخ علاقات أفراد المجتمع فيما بينهم ونشوء حالة من السخط بل والعصيان العام وارتكاب جميع أنواع المخالفات والجرائم.
لقد اختصت السلطة الحاكمة القضية المطروحة باهتمام إعلامى، لكن دون الإعلان عن خطط أو برامج وآليات معالجة هذه القضية المركبة شديدة التعقيد، هنا لا بأس من التذكرة بأن الأسباب الحقيقية لغالبية مشاكل المجتمع المصرى من عشوائية وخنقات مرورية وتلوث بيئى وتوتر اجتماعى وعدائية للنظام العام... ترجع إلى التكدس والتزاحم البشرى للاستيطان فوق رقعة محدودة من أرض البلاد، حيث استقر على سبيل المثال ربع سكان مصر على مساحة أراضى إقليم القاهرة، واستقر باقى السكان فوق ما تبقى من المساحة الكلية، وجاء ذلك بسبب ندرة سُبل العيش الكريمة خارج العاصمة، مما حولها إلى مركز جذب هائل للجموع التى تبحث عن فرص أفضل للحياة.
وإلى الآن لا توجد سياسة مقنعة لتفكيك ذلك التكدس البشرى المتنامى، كما أنه لا توجد نوايا واضحة لتحفيز الهجرة العكسية لجموع الباحثين عن فرص أفضل للحياة خارج الوادى والدلتا، لذلك فما زالت آليات الخروج العظيم للجموع الغفيرة من بؤر التكدس والتزاحم إلى الفضاء المصرى الخالى الشاسع.. عزيزة المنال، رغما عن كونها المخرج الوحيد فى المدى البعيد إن لم يكن لكل مشاكل المجتمع فإنه لأغلبها، وللأسف لم ينجح أُولى الأمر على مدى عقود فى تحقيق هذه المعادلة الصعبة، وبدلا من توجيه برامج التنمية إلى خارج الوادى والدلتا، تركزت الاستثمارات العامة والخاصة الدسمة فى إقامة مشروعات إسكان ومدن جديدة لا تستند إلى قاعدة اقتصادية متوازنة.
***
عودة إلى الخنقة المرورية التى تمسك بأعناقنا جميعا.. وتمنعنا من ممارسة حياة طبيعية مثل سائر خلق الله على وجه أرضه الكروية.
فى تسعينيات القرن الماضى، وبطلب من الحكومة المصرية، قدمت هيئة المعونة اليابانية «جايكا» منحة لتمويل دراسة مخطط استراتيجى للنقل والحركة والمرور فى إقليم القاهرة الكبرى، الذى يتكون من محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية، قام بإعداد الدراسة بيت الخبرة اليابانى Pacific International بالتعاون مع الجهات الحكومية المعنية وقائمة طويلة من خيرة الخبراء المصريين فى المجال، توصلت الدراسة فى النهاية إلى نحو ستين توصية محفوفة بمحاذير خطيرة فى حالة التقاعس عن أخذ القضية مأخذ الجد وتنفيذ هذه التوصيات.
من بين المحاذير التى أشار إليها المخطط، بعد اتضاح التباطؤ المتنامى فى وسائل النقل والحركة والمرور، وبعد أن تبين أن المتوسط العام لسرعة الحركة للآليات على جميع المحاور داخل نطاق الإقليم مع بداية الألفية هو 19 كيلومترا / ساعة، والمقدر أن يصل المعدل فى عام 2022 إلى 11.1 كيلو متر/ساعة، إلا أن الشواهد تدل خلافا لما توقعه المخطط.. على أنه ونحن فى نهاية العقد الثانى من الألفية تجاوزنا هذه المعدلات إلى الأسوأ بكثير أخذا فى الاعتبار ما طرأ على المجتمع من تغيرات هائلة بعد أحداث يناير 2011 ووصل الحال أحيانا إلى شبه شلل فى الحركة، سيكون مؤداه فى المستقبل القريب توقف دورة الحياة الإنسانية عن العمل، وقد ساعد على حدوث ذلك التجاوز ما يلى:
أولا: حجم وأهمية إقليم القاهرة الكبرى يُحتم وضع الإقليم فى نطاق قومى تنموى أكثر اتساعا، لكن التعامل مع الواقع تم على اعتبار الإقليم شبه جزيرة معزولة عن بقية أرجاء مصر، وافتراض استمرار تمركز المصالح الكبرى فى مواقعها كما هى، وعدم الإشارة إلى وجود أى احتمال لانفراج التكدس العمرانى القائم بالتحفيز على توطين كثير من الأنشطة الجاذبة للحركة خارج الكتلة المعمورة فى إقليم القاهرة الكبرى والوادى والدلتا.
علما بأنه من المفترض أن تستند المخططات الاستراتيجية للنقل والحركة والمرور إلى رُؤى تنموية عمرانية بعيدة المدى وفعالة يُمكن على أساسها افتراض أنه فى نهاية الأمر يمكن للقاعدة البشرية العريضة، الانتشار والاستقرار الطوعى بحثا عن الأرزاق فى أرجاء مصر الواسعة، اللذين يُحققان مستقبلا أكثر إشراقا للأجيال القادمة، ولن تحقق مشروعات الإسكان الحالية هذا الهدف لافتقارها إلى قاعدة اقتصادية ولعدم قدرة الفئات المستهدفة على تكلفتها.
إن الأموال والاستثمارات الهائلة التى يتطلبها تمويل المشروعات التى أوصى بإقامتها المخطط فى نطاق إقليم القاهرة الكبرى، تمت على أساس الإقرار بالواقع وأنه ليس هناك رُؤى أو أفكار أخرى لحل الاشتباكات المرورية الناشئة عن التكدس العمرانى الفوضوى، لكن يُمكن من خلال سياسة أخرى بديلة أن تُوجَه إلى أقاليم نائية ذات موارد كامنة، على أساسها تقوم أنوية عمرانية إنتاجية فيما يمكن إنتاجه، وعلى الأخص إنتاج الطعام ومشتقاته باستخدام وسائل العلم الحديثة، قادرة على جذب جموع من الأجيال الجديدة الباحثين عن فرص أفضل للحياة، وتحفيز هجرتهم العكسية إلى مناطق استقرار جديدة واعدة.
ثانيا: بالإضافة إلى أن توجهات إقامة مشروعات البنية التحتية ومحاور الحركة، التى هى مُنصبة على تحسين حال وسائل النقل العام لتشجيع عدم اللجوء إلى السيارات الخاصة، التى زادت أعدادها بدرجة تفوق الطاقة الاستيعابية للطرق بكثير، إلا أن ذلك أيضا لم يحدث، بل على العكس فقد اتجهت السياسة العامة إلى تشجيع قيام صناعات تجميع السيارات للاستهلاك المحلى فى مصر، وواكب ذلك سياسة أخرى بنكية يَسرت بدرجة كبيرة اقتناء السيارات الخاصة بالتقسيط المريح، وبدلا من اشتراط توجيه إنتاج مصانع السيارات إلى التصدير بعد تحسين مواصفاتها، تحقيقا لأهداف توفير أموال ترد من الخارج وليس من خلال استهلاك محلى، مما أدى إلى تشجيع اقتناء السيارات الخاصة لأعداد لا تُحصى مِن مَن ليس لديهم القدرة، الأمر الذى أدى فى نهاية الأمر إلى إضافة كم هائل من السيارات الجديدة إلى شبكات الطرق المكتظة بالفعل دون خروج السيارات المتهالكة... ففاض الإناء بما يحوى ويزيد.
ثالثا: كما أنه لم يتم التعامل مع مشاكل انتظار السيارات أو سُبل الارتقاء بثقافة القيادة وتقويم سوء سلوك قائدى السيارات بأنواعها، إضافة إلى ضرورة تغيير النظام المتساهل للغاية لمنح تراخيص القيادة المختلفة للسيارات، بل ومراجعة قدرات حائزى التراخيص الحالية على الالتزام بنظام حاكم للمرور.
أما فيما يخص مشكلة انتظار السيارات فقد تُركت على مدى زمنى طويل للعشوائية، حتى تفاقمت وتحولت إلى أحد المعوقات الرئيسية لسيولة الحركة، بعد أن أصبحت غالبية الطرق الفرعية وكثير من الطرق الرئيسية مأوى لانتظار السيارات على هوى أصحابها دون الالتزام بُعرف أو قانون، وبسبب ذلك انخفضت طاقة تشغيل هذه الطرق بنسب كبيرة، والسؤال البديهى الذى يطرح نفسه الآن هو ألم يُفكر أُولو الأمر فى هذه الأوضاع قبل السماح بتنشيط سوق إنتاج وتجارة السيارات فى مصر؟.. أين ستسير هذه السيارات؟.. وأين ستنتظر؟.. كذلك لم يتم فرض قواعد صارمة مُلزمة للمنشآت لتجهيز أماكن كافية لانتظار السيارات مطابقة للمواصفات ولا تعيق سيولة الحركة.
فى ظل هذه الأوضاع المتشابكة، أُهدرت حقوق المواطنين فى المدينة، لعدم تخصيص فراغات كافية لشبكات حركة للمشاة تسمح لهم بالتنقل براحة ويسر وأمان، وجاءت دائما التوسعات فى محاور الحركة وأماكن الانتظار على حساب الحيز الشحيح المتبقى لحركة المشاة.
***
فى النهاية وللإيجاز.. فإن مواجهة هذه القضية شديدة التعقيد تُحتم أن يتم تناوله منا خلال الثلاثة مستويات التالية:
أولا: على المستوى الاستراتيجى.. حتمية تفعيل خطط وبرامج وآليات لازمة لخلخلة التكدس العمرانى فى المراكز الحضرية وعلى رأسها القاهرة والإسكندرية القائمة على التركيز على الحيز العمرانى القائم دون الانتشار خارجه.
ثانيا: على المستوى التالى.. استحداث نظم مغايرة ومعاصرة قادرة على إدارة العمران ومنظومة النقل والحركة والمرور بفاعلية وحرفية.
ثالثا: على المستوى التنفيذى.. الحد من تكاثر الآليات الواردة للطرق ومن منح تراخيص القيادة، وتغليظ عقوبات الفوضى المرورية بدرجة رادعة، ومنع إقامة المبانى التى لا تحوى أماكن لانتظار السيارات كافية لشاغليها، وعدم السماح بإقامة أنشطة جاذبة للحركة الكثيفة داخل الكتل العمرانية القائمة مع وضع نظام تكاملى بين وسائل النقل العام والخاص.

سامح عبدالله العلايلى عميد سابق وأستاذ بكلية التخطيط العمرانى جامعة القاهرة
التعليقات