ما قالته الضحية لجلادها - عبده فايد - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 8:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما قالته الضحية لجلادها

نشر فى : السبت 25 أكتوبر 2014 - 12:00 م | آخر تحديث : السبت 25 أكتوبر 2014 - 12:00 م

كل شيء كان يوحي بأن اليوم سيمر عاديًا كسابقيه. استيقظ روبرت مُبكرًا في صباح يوم ربيعي من العام 1922، تناول فطوره، وضع أوراقه في حقيبة متوسطة الحجم، لم ينس في طريق خروجه من المنزل أن يطبع قبلة على جبين زوجته ماجدولين، موصيًا إياها بالراحة التامة لظروف الحمل. استقل عربة متواضعة وذهب إلى مقر مبنى بلدية فورشتنبرج حيث يمارس عمله كعمدة مُنتخب. أنهى اجتماعاته كالمعتاد قبل أن ينتصف النهار، وبينما كان يستعد للانتقال إلى مقر مبني الحكم المركزي في ولاية بادن فورتمبرج للقاء المسئولين، همس نفر من مُساعديه في أذنه، يخبره بضرورة العودة إلى بيته سريعًا لأمر هام.

بالكاد مرت نصف ساعة قبل أن يطرق روبرت باب منزله في مزيج من لهفة وتخوف. فُتح الباب بعد عدة خبطات عنيفة، وإذ به يجد جارته في استقباله. لم تترك الأخيرة الفرصة لأن يتسلل شيطان الهواجس إلى مخيلة العُمدة وهو يتساءل عن سر تواجدها في بيته، فأسرعت تخبره بأن مولودته الجديدة أصرت على تشريف الدنيا قبل ميعادها المقرر. تنفس الصعداء ودلف إلى غرفة زوجته يطمئن على صحتها. ذكرها سريعًا بالاتفاق الذي أبرماه. للأب حق التسمية إن كان المولود أنثي، وللأم نفس الحق إن كان ذكرًا. لم يأخذ وقتًا طويلًا قبل أن ينطق بالاسم الذي استقر عليه منذ فترة.. صوفي.

كأي أب ينتمي إلى علية القوم، حرص روبرت من البداية على توفير كافة سُبل الرفاهية لطفلته. تعليم في إحدى المدارس البروتستانتية، مكتبة عامرة بآلاف الكتب مع رقابة أبوية تحدد ما هو ملائم لسنها. مُدرس خصوصي لإصقال موهبتها في الموسيقي. حتي عندما أنهت دراستها المتوسطة، حرص الأب على الانتقال إلى مدينة أرحب بمستوى معيشي أفضل، مدينة أولم حيث التحقت صوفي بالمدرسة الثانوية. كل الأمور كانت تشي بأن صوفي في طريقها الصحيح لتصبح فتاة ألمانية تقليدية، إلي أن حدث ما لم يكن متوقعًا.

عاد الأخ الأكبر هانس من إحدى ساحات القتال الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وبدأ يروي لصوفي مشاهد متوالية مما اختبر من فظاعة قوات بلاده. وأتبعها بتساؤلات.. لم يتعين علي الوقوف بجانب نظام يمارس أقسى عمليات الإبادة في حق الجيران؟ هل تسمح لي نشأتي البروتستانتية بأن أُمضي ما تبقي من حياتي صامتًا تجاه كل ما ارتُكب من فظائع في حق أبناء شعبنا؟

أغمضنا أعيننا عندما تم مصادرة الحريات السياسية بشكل كامل عقب حريق البرلمان الألماني عام 1933 إيمانًا بأننا ندعم النظام والاستقرار. صمتنا حين أحُرقت آلاف الكتب وقُصفت مئات الأقلام في مذبحة 10 مايو 1933 ظنًا بأننا نحمي الروح الألمانية، أغمضنا أعيننا حين رأينا اليهود يُسحلون في الشوارع في ليلة الكريستال يوم 9 نوفمبر 1938 اعتقادًا بأننا نحفظ الوطن مما يُحاك ضده من مؤامرات. وماذا جنينا؟

دارت الدائرة على الجميع. القمع ما إن يبدأ لا يعرف نهاية، لايميز بين رفيق وعدو، وإن كان هناك ما سيقود أمتنا للهلاك، فلن تكون مؤامرات متوهمة من الخارج، فقط مزيد من الصمت والتجهيل في الداخل. من الآن فصاعدًا سأبذل كل ما يتعين علي فعله للتنبيه بمصير مُظلم إن أكملنا في نفس الطريق.

أيام قليلة عقب عودته، وكون هانس مع زملائه كريستوف بروبست، ألكسندر شموريل وفيلي جراف خلية سرية في جامعة ميونخ حيث كان يدرس الطب، للتوعية بخطورة الأفكار النازية. ألحت صوفي عليه لقبول انضمامها للمجموعة. كانت بدورها قد التحقت بنفس الجامعة لدراسة الفلسفة والبيولوجي عام 1942. رفض اقتراحها تمامًا في البداية، لأنها أخته أولًا، ولأنها بنت ثانيًا، لن تستطيع تحمل مرار النضال وغياهب الاعتقال لو وقعت في قبضة البوليس السري. ألحت عليه، واستخدمت جملة نابليون الشهيرة لمحاولة إقناعه '' اليد التى تهز المهد قادرة على أن تزلزل العالم''، ونجحت في النهاية.

رويدًا بدأت معالم الفكرة تتضح. قرروا توسيع أنشطتهم، واختاروا لمنظمتهم السرية اسم Die weiße Rose أو الوردة البيضاء، مهمتها رسم الجرافيتي علي حوائط الجامعة، وطبع المنشورات التي تفضح جرائم نظام هتلر، وتوزيعها على الطلاب في كل الكليات. يوما تلو الآخر وجذور الورقة البيضاء تضرب في أعماق المناخ الجامعي في ميونخ، وأوراقها تتفتح، ورحيقها ينتشر، ليطال جامعتي هامبورج وبرلين.

إلى أن دقت الساعة العاشرة من صباح يوم الـ 18 من فبراير 1943..

خرجت صوفي رفقة أخيها وزميلهما كرستوف في صباح اليوم المشئوم لتوزيع المنشورات. لمحهم حارس الجامعة ياكوب شميت أثناء رسم جرافيتي مناهض لهتلر على حوائط الجامعة، أبلغ البوليس السري، الذي سرعان ما قاد حملة تفتيشية في بيوتهم وأماكن إقامتهم، وصادر مئات النُسخ المُعدة للتوزيع، وبعض الآلات الكاتبة، قبل أن يُلقي القبض عليهم.

طلب الظابط روبرت مور من صوفي الوشاية بأخيها وتحميله المسئولية بأكملها. على أن تُقدم اعترافًا خطيًا تُقُر فيه بخطأها في معارضة هتلر، وستحصل في المقابل على عفو عن كل ما ارتكبت. لم تأبه لحروفه الممزوجة بالتهديد، ولم تنخدع ببريق وعود العفو. ردت بثقة.. "إن قدر لى أن أغادر هذا المكان فسأكرر مافعلته مرات ومرات، سأموت حتمًا، وإذا كان موت فتاة جامعية سينبه آلاف الناس ويوقظهم من غفوتهم، فمرحبًا به، وكن على يقين، أنه من قلب مأساتي، سيسقط نظامكم حتمًا".

فشلت كل محاولات إقناعها بالتراجع، وبعد 5 أيام من محاكمة صورية أصدر قاضي محكمة الشعب رونالد فرايزلر الحكم عليها بالإعدام بالمقصلة. لم تهتز ووجهت آخر كلمة لها في حياتها إلى القاضي.."Bald werden Sie hier stehen, wo ich jetzt stehe.. قريبًا جدًا ستقف حيث أقف الآن.. قالتها وهي مقتنعة أن الظلم لا يمكن أن يدوم، وأن الجلاد مهما استتب له الأمر لابد وأن يلقى جزاءه.

لم يلق القاضي بالًا لكلماتها، اعتبرها محض تخاريف وهلاوس لجامعية عشرينية مُقبلة على فصل رقبتها عن جسدها. ظنه كان خاطئًا بالكلية. لم يمض أكثر من عامين على موتها في الثاني والعشرين من فبراير 1943 حتى تحققت نبوءتها وانتصرت وهي تراب تحت تراب. سقط هتلر صريعًا، وقُدم رجالاته إلى المحاكمة حيث كانت تُحاكم، ونالوا نفس ما نالته من مصير.

الفارق أنها خُلدت بموتها، وبموتهم ذهبوا إلى هوامش التاريخ. وبينما لاتكاد تُذكر أسماءهم إلا وانصبت اللعنات عليهم جراء ما سببوه، تحولت ذكري ميلاد صوفي شول في التاسع من مايو لمناسبة جليلة تحتفل بها الدولة الألمانية. 11 تمثالا وأكثر من 140 شارعا و7 ميادين كبرى تزينت باسمها.40 كتابا وقرابة 20 فيلما ما بين سينمائي ووثائقي أُنتجت للحديث عن نضالها. معهد خاص ومؤسسة حقوقية حملا اسمها في ولاية بايرن، فضلًا عن جائزة أدبية تمنحها الولاية باسمها. ولا يكاد يمرعام بدون إصدار طابع بريد يُعرف النشء برسالتها الخالدة.

"اثبت مكانك، على مبادئك. أنت أقوى بكلمتك وصوتك.. في حياتك وحتى مماتك.. الاستبداد يولد ميتًا، ولا تبقى في النهاية إلا إرادة الأحرار".

عبده فايد طالب ماجستير في العلوم السياسية في جامعة دويسبورج–ايس الألمانية، وحاصل علي بكالريوس علوم سياسية جامعة القاهرة، باحث سياسي
التعليقات