العرب والتاءات الثلاث - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 4:28 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العرب والتاءات الثلاث

نشر فى : الأربعاء 25 نوفمبر 2009 - 10:22 ص | آخر تحديث : الأربعاء 25 نوفمبر 2009 - 10:22 ص

 بعد تحقيق الانتصار العسكرى فى حرب رمضان وادعاء أن العرب أمكنهم، بفضل تضامنهم، أن يجنوا ثمارا اقتصادية ليس فقط بتقلص الموارد الموجهة للاستعداد الحرب، بل وبالتحكم فى أسعار البترول واستعادة جزء من حقوقهم التى سلبتها الدول الصناعية المتحكمة فى استخراجه وأسواقه، يحق لهم أن يتطلعوا إلى تكثيف عملهم المشترك من أجل تحقيق تنمية تعذر عليهم تحقيقها فى الماضى. وأوضحت الدراسات التى أجرتها جامعة الدول العربية أن عليهم أن يقضوا على تاءات ثلاث: التخلف، والتبعية، والتجزئة. وكان رد وثيقة «إستراتيجية العمل الاقتصادى العربى المشترك» عليها هو التنمية، والتحرير الشامل، والوحدة العربية. ثم مضت ثلاثة عقود زاد فيها تباعدهم عن بعضهم البعض، بل وشهدت صراعات داخلية وبينية بينما تضعضعت قواهم فيما كان يسمى قضية العرب الأولى. وأصبح الحفاظ على الوحدة القطرية أملا بعيد المنال فى كثير من الأحوال، وتسلطت أنظمة فضلت تعميق التبعية من أجل الحفاظ على كراسيها، وفى سبيل هذا كانت على استعداد لغزو بعضها البعض بالسلاح وأبواق الإعلام التى شاء الحظ العاثر أن تكون هى المستفيد العربى الأكبر من ثمار ثورة المعلومات والاتصالات التى تقود التنمية فى هذا العصر.

فإذا عدنا إلى الصواب وواصلنا التطلع معا إلى التنمية التى بدونها سيخرج العرب من كل من التاريخ والجغرافيا، وأدركنا أن التنمية هى تنمية البشر بواسطة البشر ومن أجل البشر، كان السؤال الأول هو كيف السبيل إليها وقد تمزقت أوصال الأقطار العربية من جراء تطاحن البشر وانشغالهم بالصغائر لعجزهم عن امتلاك الفسحة التى يتأملوا فيها مستقبلهم ويصححوا أوضاعهم ليتمكنوا من تعجيل الخطى لتعويض ما فاتهم. لا يحتاج الأمر عناء لكى ندرك أننا نواجه الآن تاءات ثلاثا هى: التأهيل ــ التعمير ــ التنمية. فالغالب على تفكير دولة تخرج لتوها من صراع أدمى جراحها وحطم اقتصادها أن تعيد تعمير ما خربه الصراع من بنيتين تحتية وفوقية.

وقد كان هذا هو دافع المجتمع العالمى فى أعقاب الحرب العالمية إلى إنشاء البنك الدولى لإعادة التعمير والتنمية (ترجم اسمه ترجمة عربية ركيكة إلى الإنشاء Reconstruction والتعمير Development إذ لم تكن التنمية قد دخلت القاموس اليومى). وكان موجها فى المقام الأول لتلبية احتياجات الدول المتقدمة الأوروبية لإعادة تعمير ما خربته حرب الأعوام الستة (وهو ما عززه الأمريكان بخطة مارشال)، بينما كان من بقى من البشر لا يحتاج إلا إلى تسريح مدروس ليعود إلى وظائف فى الحياة المدنية، مسلحا بمعرفة كان الفضل الأكبر فيها لمؤلفات عرفت باسم «علم نفسك بنفسك» Teach Yourself (استفدت منها كثيرا عند بدء اشتغالى بالتدريس الجامعى)، ومزودا بتأهيل نفسى رعته الإدارة العسكرية وتنظيمات المقاومة المدنية، حفاظا على مستويات فكرية وثقافية قطعت شوطا بعيدا قبل نشوب الحرب، وتكوينات مدنية أوجدتها نظم مجتمعية تقوم على توافق فئات المجتمع فى دول الحلفاء، أو على قيم الانضباط والاحترام المتبادل فى دول المحور، وبخاصة ألمانيا واليابان.

وعندما واجهت الدول العربية المحاربة موقفا مماثلا فى منتصف السبعينيات انشغلت بمحاولة الخروج من المشكلة الاقتصادية، وهو ما أوقعها فريسة صندوق النقد الدولى. فأعلن السادات فى مصر سياسة الانفتاح وطالب العرب بمساعدات ضنوا بها، وفتحوا أمام المصريين باب الهجرة حتى لا يشكلوا قوة ضغط فى مصر من أجل مزيد من التدخل الحكومى، واستولى عثمان من خلال المقاولون العرب على عمليات التعمير. وتُرك الشباب الذين حققوا النصر ليواجهوا مستقبلا غامضا لا يملكون القدرة على صياغته على النحو الذى يحفظ قدراتهم ومعارفهم التى كادت تضيع فى الخنادق انتظارا لبذل الدماء فى الجبهة. ونشأت فئة ارتزقت من عمليات التعمير ومن صفقات تجارية وخدمات لا تستند إلى إنتاج محلى. وهكذا كوفئ البشر الذين خاضوا الحرب مزودين بتعليم رفع من أدائهم العسكرى بالانتقال من حرب نظامية فى ساحة القتال، إلى كفاح غير نظامى فى ساحة ميدانية منفلتة. وشيئا فشيئا أصبحت الحاجات الأساسية اللازمة لتكوين البشر.. التعليم والصحة والإسكان مجالات لأرباح أشاعت الارتزاق على حساب أقوات الشعب. واستكملت عملية تحطيم الكفاءات البشرية بالخصخصة والمعاش المبكر الذى التهمته مافيا توظيف الأموال.

صورة أخرى شهدها لبنان، الذى اشتهر بقدرات مواطنيه، عندما استنزفته الحرب الأهلية، واستنزفت شبابا ليكونوا أداة صراع بين أبناء الوطن الواحد. وعندما زرتها فى أكتوبر 1990 رأيت شبابا زائغ الأبصار اختفت من على شفتيه ابتسامة كانت لا تفارقهما. وعلمت أن تشكيلات مدنية أقيمت لإجراء عمليات إعادة تأهيل، خصوصا للصغار الذين روعتهم الأحداث وأفقدتهم ذويهم. واستطاع لبنان أن يستعيد بعض عافيته ولكن حال دون استكمالها عوامل التفرقة المذهبية والطائفية، التى تغذيها مصالح محلية وأجنبية، تتسلل فيها إسرائيل لتزرع نبات خيانة الأوطان. وندعو الله أن يستطيع المجتمع اللبنانى استرداد تماسكه. غير أن القضية أصبحت عامة، بعد أن امتدت إلى العراق والسودان والصومال بشكل سافر، وإلى معظم الدول العربية على نحو أو آخر، بحيث تواجه جميعا مصيرا معتما ما لم تجر معالجة حاسمة للأمور.

ولعل ما تعرضت له الجزائر من أحداث بعد الاستقلال يوضح خطورة ما يترتب على إهمال عملية إعادة التأهيل النفسى للخروج من ترسبات حقبة الاستعمار الاستبدادى الذى استمر من 1830 حتى 1962، وانتفاضة جبهة التحرير التى بدأت فى 1954 وتجاوز ضحاياها المليون ونصف المليون شهيد. فبدلا من توجه الحكم الوطنى لإعادة بناء الإنسان الجزائرى، وزرع مشاعر الأمان والثقة فى إخوة الكفاح والاستبشار بمستقبل يعم فيه الرخاء، انفض التآخى وتفرق أشقاء الأمس شيعا وأحزابا تتكالب على السلطة، فحصلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ (وهو اسم له دلالة) فى 1991 على أغلبية فى انتخابات فتصدى لها الجيش. ومنذ ذلك التاريخ قام مدعو الإسلام بإبادة مئات الآلاف من إخوتهم فى الدين والوطن، بأسلوب وحشى يذبح فيه إنسان إنسانا، وأفنوا قرى عن بكرة أبيها. إن هذا السلوك غير الآدمى هو تجسيد لنفس مريضة لم تتم معالجتها. وفى العراق توالت الثورات إلى أن أدركت آخرها أن مواجهة المعارضة تكون بالإبادة ولو بالنابالم، وحاليا ترتكب المذابح بأساليب انتحارية دلالة على فقدان الأمل فى حياة أفضل. أما الصومال فحدث ولا حرج، فقد انصرف الشباب عن بناء مستقبل كريم بحمل السلاح واحتراف القرصنة، وتدمير نفوس مواطنيهم وفرض قيود على حرياتهم باسم الإسلام. وما يحدث من ترويع للأطفال وإرهاب للكبار فى فلسطين على يد الصهاينة يفاقمه ما ترتكبه الفصائل الفلسطينية باسم المقاومة.

إن هذه الحالات الصارخة تجسد الصيغة النهائية لعمليات تسلط وكبت تمارس فى دول عربية ظلت حتى الآن متماسكة، تتحدث عن مشروعات للتنمية وأسواق مشتركة واتحادات تكاملية إقليمية وقومية، وشراكات أمريكية وأوروبية. إن الطريق إلى التنمية ليس بإصلاح اقتصادى أو سياسى، بل بتقويم التنظيم المجتمعى، لا تتم إلا بتنظيف المنظومة الثقافية مما علق فيها وإعادة الطمأنينة إلى النفوس. ولا يمكن الحديث عن خروج من حلقات التخلف أو عن إعمار ما خربته الحروب والصراعات ما لم نبدأ بتقويم النفوس وإزالة ما تحتقن به من كراهية ومخاوف، وإحلال مهارات البناء والتعايش محل مهارات استخدام السلاح.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات