نُذُر الغارة على المجتمع المدنى فى مصر - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 10:15 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نُذُر الغارة على المجتمع المدنى فى مصر

نشر فى : الثلاثاء 25 نوفمبر 2014 - 8:20 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 25 نوفمبر 2014 - 8:20 ص

المعركة الدائرة الآن حول المنظمات الحقوقية المصرية تدق الأجراس منبهة إلى أن المجتمع المدنى فى خطر.

(1)

يوم الأحد 23 نوفمبر الحالى، خصصت جريدة الأهرام صفحة كاملة لملف المنظمات الحقوقية، ركزت على أمرين أساسيين، الأول: إن حقوق الإنسان محفوظة فى الداخلية (كان ذلك هو العنوان الرئيسى للصفحة الذى أبرز على ثمانية أعمدة). الثانى: أن بعض المنظمات الحقوقية تعمدت الإساءة إلى مصر وتشويه صورتها أمام الأمم المتحدة (فى اجتماع مفوضية حقوق الإنسان الذى عقد بجنيف). وكانت خلاصة الرسالة التى وجهتها صفحة الجريدة إلى القراء واضحة فى أن وزارة الداخلية حارسة لحقوق الإنسان، فى حين أن المنظمات الحقوقية محرضة ومتآمرة على الدولة.

الرسالة لم تكن جديدة. فالهجوم على تلك المنظمات المستقلة مستمر منذ دأبت على إصدار البيانات التى انتقدت فيها العديد من الإجراءات والممارسات التى اعتبرتها انتهاكا لحقوق الإنسان فى مصر. وكان ذلك مبررا كافيا لإطلاق حملة إعلامية استهدفت تجريحها وتوجيه مختلف الاتهامات للعاملين فيها، تراوحت بين تشويه صورة البلد والعمالة للخارج، مرورا بالتنسيق مع مخططات التنظيم الدولى للإخوان. وبسبب ذلك وبحجة مواجهة الإرهاب، دعا البعض إلى الكف عن الحديث عن حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون فى مصر.

اشتد أُوار المعركة حين اقترب موعد جلسة مفوضية حقوق الإنسان فى جنيف المخصصة لمراجعة ومناقشة ملف مصر الحقوقى التى كان محددا لها الخامس من شهر نوفمبر الحالى، إذ كان استعراض الملف الذى يتم كل أربع سنوات مناسبة لنقل الصورة إلى المجتمع الدولى. وهو ما دفع مصر إلى بذل جهد كبير لتحسين تلك الصورة.

(2)

تحسبا لتلك المواجهة، نشرت جريدة الأهرام فى 18 يوليو الماضى إعلانا لوزارة التضامن الاجتماعى، طالبت فيه منظمات المجتمع المدنى المصرية والأجنبية بضرورة تقنين أوضاعها، تماشيا مع قانون الجمعيات الأهلية الصادر فى سنة 2002 «تجنبا لتعرضها للمساءلة وفقا للتشريعات والقوانين ذات الصلة». وإذ فوجئت المنظمات الحقوقية المستقلة بالاعلان، فإنها سارعت إلى الرد ببيان اعتبرت فيه الإجراء المعلن مخالفا لنص دستور عام 2014، وبمثابة إعلان حرب على حرية إنشاء الجمعيات الأهلية وعمل المجتمع المدنى، وذكرت ان منظمات المجتمع المدنى «هى خط الدفاع الأخير عن ضحايا الانتهاكات وسياسة القمع المتبعة».

رد فعل المنظمات المذكورة لم يأت من فراغ، ذلك انها كانت قد تلقت رسائل الضيق بسياساتها من ممارسات عدة كان فى مقدمتها اقتحام الشرطة لبعض مقارها (المركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فى القاهرة والاسكندرية مثلا) كما كان منها مصادرة الأجهزة فى المقار ومصادرة نشرة «بوصلة» التى تصدرها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، واعتقال بعض الناشطين العاملين فى المنظمات الحقوقية. وهى أجواء وصفها مدير البرامج فى مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ــ الاستاذ محمد زارع ــ بأنها بمثابة سيف مسلط على رقاب كل العاملين فى مجال حقوق الإنسان.

خلال المهلة التى اعطتها وزارة التضامن الاجتماعى للمنظمات والجمعيات الأهلية، وانتهت فى 10 نوفمبر، التقى رئيس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الأستاذ بهى الدين حسن رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب وشرح له وجهة نظر المنظمات الحقوقية التى تتمثل فى التمسك بنص الدستور الجديد فيما خص منظمات المجتمع المدنى، الذى اشترط لقيامها مجرد اخطار السلطة بذلك، فى حين ان تسجيل الجمعيات والمنظمات فى ظل القانون الصادر فى عام 2002 يفقدها استقلالها ويخضع انشطتها لرقابة ووصاية السلطة التنفيذية وأجهزتها الامنية التى ستجعل من التسجيل وسيلة للضغط عليها.

لم يتغير موقف وزارة التضامن الاجتماعى، لكنها لم تتخذ إجراءات عقابية ضد المنظمات القائمة. وفى الوقت ذاته فإن المنظمات لم تلجأ إلى تصعيد الموقف إزاء السلطة، فاعتذرت سبع منها فى بيان علنى أصدرته عن عدم المشاركة فى مؤتمر جنيف، من ناحية لكى لا تنقل الأزمة إلى الساحة الدولية، ومن ناحية ثانية لانها تتجنب المواجهة فى الداخل، بعدما تلقت تهديدات من جانب المؤسسة الأمنية أشارت إليها فى بيانها.

الموقف يبدو هادئا فى ظاهره فى الوقت الراهن، لكن موقف الضيق بالمنظمات الحقوقية لم يتغير. تؤيد ذلك قرائن عدة بينها التسريبات التى تحدثت عن مشروع قانون لتنظيم عمل الجمعيات يقضى بإشراك الأجهزة الأمنية فى إدارتها، وبينها التعديل الذى أدخل مؤخرا على قانون العقوبات متعلقا بتمويل الجمعيات، وبمقتضاه أصبحت مزاولة أى نشاط أهلى أو نقابى مغامرة تعرض من يشارك فيها لعقوبات تصل إلى السجن المؤبد أو الإعدام (القانون 128 لسنة 2014). فى مقابل الضغوط والإجراءات التى تلوح بها السلطة، فإن النشطاء الحقوقيين اعتبروا ان تراجعهم عن استقلال مؤسساتهم يفقدهم شرعيتهم ويلغى مبرر وجودهم. فمنهم من صمد ولا يزال يحارب على جبهته. ومنهم من آثر السلامة وفضل الهجرة والاستقرار خارج البلاد، ومنهم من ركب الموجة واصطف إلى جانب وزارة الداخلية التى دأبت على انكار وجود أى انتهاكات لحقوق الإنسان فى مصر.

(3)

حسب البيانات الرسمية فان فى مصر نحو 47 ألف جمعية ومنظمة تمارس نشاطها فى المجال الأهلى، وإذا حذفنا الجمعيات المجمدة والعائلية فسوف نجد أن 22 ألف جمعية فقط هى التى تمارس عملا على الارض. وهذه الأرقام لا تسبب قلقا للسلطات، وإنما مصدر القلق يتمثل فى الجمعيات الحقوقية التى يتراوح عددها بين 300 و400 منظمة، لكننا إذا دققنا فى قائمة الجمعيات الأخيرة جيدا فسنجد أن المنظمات الحقوقية المستقلة التى تمارس نشاطها حقيقيا فى رصد الانتهاكات ومكافحتها فى حدود 20 منظمة فقط، لها صوتها المسموع فى داخل مصر وخارجها. وهذه المنظمات هى التى تخوض الاشتباك الراهن وهى التى تسبب الصداع.

ثمة لغط تقليدى مثار حول التمويل الخارجى للجمعيات الحقوقية والخيرية، الذى تتشكك الدولة فى مصادره ومقاصده، وتحرص على ان يخضع لرقابتها. وهذا حق مشروع معترف به فى العديد من بلدان العالم. وفى أبحاث وكتب الدكتورة أمانى قنديل المختصة بالموضوع عرض للأساليب المتبعة مع التمويل الخارجى الذى تحظره كلية دول الخليج، أما الهند فتسمح به شريطة أن يودع التمويل فى حساب خاص وتخطر به الحكومة، التى لها ان تراقب أوجه انفاقه ووصوله إلى مستحقيه. وفى مصر فان القانون يلزم اى منظمة بأن تخطر السلطات بما تتلقاه من تمويل خارجى وتراقب التصرف فى المبالغ قبل تشغيلها. وبالمناسبة فإن الدكتورة أمانى قنديل تقدر حجم التمويل الخارجى الذى تلقته المنظمات والجمعيات الأهلية منذ قامت الثورة فى عام 2011 وحتى العام الحالى (2014) بمبلغ 750 مليون دولار، أغلبها جاء إلى مصر من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى.

حين ناقشت الأمر مع اثنين من قيادات المنظمات المستقلة ــ الأستاذين نجاد البرعى وجمال عيد ــ قالا ان حق الدولة فى مراقبة التمويل الخارجى لا اعتراض عليه ولا جدال فيه، وان وسائل المراقبة معروفة ومعمول بها فى أغلب دول العالم. ولكن المشكلة تكمن فى إقحام التسجيل فى الموضوع واعتباره وسيلة للضغط على المنظمات الأهلية وابتزازها، خلال إملاء الشروط عليها، وهو ما يخالف نص المادة 75 من الدستور المصرى الذى يقضى بأن تلك المنظمات تنشأ بمجرد إخطار الجهات المعنية بذلك. وان يقر الجميع بأن التمويل الداخلى هو الحل الأمثل، إلا أن ذلك قد لا يتوافر فى كل الأحوال فضلا عن أن التمويل الخارجى نظام معمول به فى مختلف أنحاء العالم، وله من الضمانات ما يكفل تجنب إساءة استخدامه. يضيفون ان المشكلة فى مصر ظاهرها يكمن فى عملية التمويل الخارجى الذى أبدت بعض المنظمات استعدادا للاستغناء عنه، لكنها تكمن فى مسألة تحكم الأجهزة الأمنية التى تسعى إلى تأميم تلك المنظمات، واستخدام سلاح التسجيل وسيلة لتحقيق ذلك.

(4)

ليس عندى أى دفاع عن التمويل الأجنبى الذى يمكن اعتباره أبغض الحلال فى الوقت الراهن. لكن المشكلة والمعركة التى نحن بصددها أبعد وأكبر منها. إذ المطلوب إسكات أصوات رصد الانتهاكات وكشفها. ولعلى لا أبالغ إذا قلت إننا بصدد حرب بالوكالة. فظاهر الأمر أن التجاذب حاصل بين وزارة التضامن الاجتماعى وبين المنظمات الحقوقية، إلا أنهما ليستا الطرفين الحقيقيين فى الصراع. لان طرفيه الأصليين يقبعان فى الخلف. فأحدهما يتمثل فى المؤسسة الأمنية التى تعد اللاعب الرئيسى فى الفضاء السياسى، وباتت ترى أن المنظمات الحقوقية تلاحق ممارساتها ومن ثم تسبب لها حرجا فى الداخل والخارج. أما الطرف الثانى فهو المجتمع المدنى الذى لن تقوم له قائمة ما لم يتخلص من وصاية السلطة وقبضة مؤسستها الأمنية. وإذا صح ذلك التحليل فهو يعنى أن وزارة التضامن واجهة للمؤسسة الأمنية، كما أن المنظمات الحقوقية واجهة للتواقين للحرية الحالمين بإقامة مجتمع مدنى ثابت الأركان.

اننا إذا ألقينا نظرة على المشهد من زاوية أوسع فسوف نلاحظ ان موت السياسة فى مصر استصحب تعاظما لدور المؤسسة الأمنية. سنلاحظ أيضا أن ضعف المجتمع المدنى المتمثل فى المؤسسات المعبرة عن جموع الناس والمدافعة عن مصالحهم، هو أحد العاهات التى أصيبت بها مصر فى ظل عهود الاستبداد التى خلت. وذلك الضعف شديد الوضوح الآن فى هزال التحالفات التى يجرى تشكيلها الآن تحضيرا للانتخابات التشريعية، التى تدعو أبواق المؤسسة الأمنية إلى تأجيلها استنادا إلى ذريعة عدم الجاهزية.

فى هذه الأجواء تبرز المنظمات الحقوقية المستقلة باعتبارها منبرا مهما ينتقد الانتهاكات التى ما عاد أمرها سرا (فى ظل الاستخدام الواسع لشبكات التواصل الاجتماعى)، فضلا عن أن ضحاياها يتزايدون يوما بعد يوم. وقد لا أبالغ إذا قلت إنها باتت تشكل المساحة الوحيدة فى مجالات العمل العام التى بقيت مكرسة للدفاع عن كرامة الإنسان المصرى بغض النظر عن أى انتماء له، ومن ثم نجت من الاستقطاب البائس الذى شق الصف الوطنى فى مصر، وأغرق أغلب عناصر النخبة فى مستنقعه.

إن هدف المعركة الدائرة الآن هو إسكات صوت أحد أهم منابر الدفاع عن المجتمع المدنى والدستور ذاته. والاصطفاف حول مقولة «الأهرام» التى ادعت ان حقوق الإنسان محفوظة فى الداخلية، ومن ثم فبدلا من الدعوة إلى إعادة هيكلة الداخلية انتصارا للعدالة ولحقوق الإنسان، فإننا صرنا مدعوين لأن نسلمها ملف الدفاع عن حقوق الإنسان، اقتداء بالنموذج الذى ضربته حين تم تصوير حفلة الضرب التى تعرض لها مواطن فى أحد الأقسام، فعالجت الداخلية الأمر وحسمته بقرار حظر إدخال الهواتف المحمولة إلى أقسام الشرطة.

ان ظهور منظمات حقوق الإنسان يمثل أحد إفرازات الممارسة الديمقراطية، وإحدى مشكلات العالم الثالث. ان بعض دوله باتت تحرص على ان تتجمل بلافتة حقوق الإنسان لتستر بها تكبيلها للحريات وتعطيلها لأى تقدم باتجاه الديمقراطية. ومن ثم تقويضها لمحاولات إقامة المجتمع المدنى الذى بات طوق النجاة من الاستبداد الذى باتت الآمال معقودة عليه وصار أحد أهم عناوين الربيع العربى. وأرجو ألا تكون مصر بين تلك الدول.

فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.